الثورة الليبية بين عوامل الفشل وجهود النجاح

05 فبراير 2021
+ الخط -

انتفض الليبيون في فبراير/ شباط 2011 ضد حكم استمر جاثما فوق صدورهم أكثر من 42 سنة، بعد أن ظن كثيرون منهم أن إزاحته أمر أشبه بالمعجزة، فقد حكمهم بالحديد والنار، وسجونه كانت قادرة على استيعاب كل من عارضه فعلا أو قولا. وكثيرا ما لم يكتف النظام بتقييد حرية معارضيه واعتقالهم، بل وصل الأمر إلى تصفيتهم داخل تلك السجون. ولعل مجزرة يونيو/ حزيران 1996 ستظل شاهدة على دموية هذا النظام، وقد قضى فيها وراح ضحيتها 1200 معتقل في سجن أبو سليم، والتي كان الحديث عنها من المحرّمات التي لا يغفرها النظام، ولا تتساهل فيه أجهزته الأمنية التي استعملها طوال فترة حكمه "لتعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور".

دفع الليبيون ثمنا كبيرا، فقد أُجبروا على امتشاق السلاح دفاعا عن أنفسهم، وعن مدنهم، ضد استعمال غاشم للقوة من كتائب لم تكن لها أي عقيدة عسكرية وطنية، تفننت في الولاء المطلق للنظام، ولم تتوان في ذلك عن أي فعل. ثم تنفس الليبيون نسيم الحرية والديمقراطية بعد حرمان، ولكن ذلك لم يدم طويلا، إذ سرعان ما غرقت البلاد في أتون التجاذبات الدولية، والتدخلات الإقليمية التي سعت إلى إجهاض فرص نجاح الثورة، وحاولت (ولا تزال) تطويع العملية السياسية بما يخدم ويوافق مصالحها، مستغلة أطرافا داخلية مسكونة بهوس السلطة.

كان 7 يوليو/ تموز 2012 يوما مشهودا في تاريخ ليبيا الحديث، حيث توجّه المواطنون فيه إلى صناديق الاقتراع بعد أكثر من أربعة عقود من "الحزبية إجهاض للديمقراطية" و"من تحزّب خان" و"التمثيل تدجيل"، تلك المقولات التي حفظها الليبيون عن ظهر قلب، لأنها أُحيطت بهم، وحاصرتهم إلى الدرجة التي نادرا ما تخلو طريق رئيس داخل مدنهم وقراهم من لافتات تُذكّرهم بهذه المقولات وغيرها من مقولات "الكتاب الأخضر" الذي فُرضت عليهم دراسته، والامتحان فيه، بل ومُنحت فيه درجات علمية من كلياتٍ تخصّصت في دراسته.

كان 7 يوليو 2012 يوما مشهودا في تاريخ ليبيا، حيث توجّه المواطنون فيه إلى صناديق الاقتراع بعد أكثر من أربعة عقود من "الحزبية إجهاض للديمقراطية"

خاض الليبيون هذه التجربة بعيدا عن أي تدخلات، ونجحوا في انتخاب أول جسم تشريعي (المؤتمر الوطني)، في انتخاب شهدت بنزاهته مؤسسات دولية كثيرة أشرفت عليه، واستبشر كثيرون خيرا بنجاح انتفاضتهم، الأمر الذي أدى إلى نوع من الاستقرار والأمان، ولكن ذلك كان حدثاً لم يرق لطلاب السلطة، وفي مقدمتهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي أعلن الانقلاب على هذا المؤتمر في 11 مايو/ أيار 2014، رافعا شعارا اعتاد اللجوء إليه، ليبرّر هذه الرغبات، وهو "مكافحة الإرهاب" والتصدي لتغلغل "الإخوان المسلمين". وقد عرّفت صحيفة الغارديان حفتر بأنه "عميل سابق للمخابرات المركزية الأميركية، ولديه الجنسية الأميركية، ويتلقى الدعم من دول عربية وغربية، على الرغم من أدلة على ارتكابه جرائم حرب في ليبيا". فشل انقلابه في طرابلس، فاتّجه إلى بنغازي، وشكل قوة عسكرية لا يستهان بها تحت الشعار نفسه (مكافحة الإرهاب)، مستغلا الدعم الذي تلقاه من دول عدة في السيطرة على كامل الهلال النفطي، تلك السيطرة التي جعلت منه رقما مهما في أي تسوية، وأعطته قوة تفاوضية لا يزال يستغلها بشكل أناني فج في مصالحه الشخصية، من خلال إقفاله المستمر حقول النفط، وإيقاف تصديره، في أكثر من مرة وبأكثر من حجة. هذا الإقفال الذي تسبب في خسائر تجاوزت 180 مليار دولار منذ العام 2013، وجعل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 270%، واقتربت مداخيل النفط في 2020 من الصفر (حسب إحاطة محافظ البنك المركزي أمام مجلس النواب في طرابلس).

يُعد انتشار الأسلحة بكل أنواعها، بما فيها الأسلحة الثقيلة، تحدياً فشلت كل الحكومات المتعاقبة في التعامل معه

وعلى الرغم من لعب حفتر، وكتائبه، هذا الدور السلبي المشبوه، من خلال سعيه المحموم، ومنذ الأيام الأولى لانطلاق الانتفاضة، إلى الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور، إلا أن هناك عوامل أخرى كثيرة أدّت، في ما أدت إليه، إلى عراقيل كثيرة، قوّضت الجهود والتضحيات التي بُذلت من أجل إنجاح هذه الانتفاضة، لعل أهمها الطريقة الشمولية التي أدار بها القذافي الدولة طوال فترة حكمه، وانتشار السلاح، بالإضافة إلى طبيعة المجتمع القبلية، فقد حرص نظام القذافي على تجنب أي محاولةٍ لإنشاء هياكل للدولة بالمعنى الحديث، حيث تحوّلت كل المؤسسات الحكومية إلى أداة استخدمها في كسب ولاء الأفراد والقبائل، من دون أن تكون لها استراتيجية أخرى سوى خدمة النظام والسير في فلكه، ونجح في بناء دولةٍ تتمحور حول شخصه، مستخدما عوائد النفط في التركيز على العامل الأمني لقمع أي معارضة، بدلا من بناء دولة مؤسساتٍ يمكن أن تستمر في غيابه. ولافتٌ أن الجيش أيضا لم يسلم من مخطط الإفشال الممنهج، حيث اعتمد القذافي الذي وصل إلى الحكم عن طريقه الخطط التي أدّت إلى إضعاف الجيش وتفريغه من محتواه، حتى لا يصبح مصدر تهديد له، خصوصا بعد محاولات الانقلاب الفاشلة التي تورّط فيها كثيرون من قادة الجيش وأمراء كتائبه، وكوّن، عوضا عن ذلك، كتائب أمنية مسلحة ومدرّبة جيدا، ومحكمة بقيادة أبنائه، ومساعدة أبناء قبيلتي "القذاذفة" التي ينتمي إليها و"المقارحة" التي يتزعمها عبدالله السنوسي، عديله وساعده الأيمن. وأوكلت لها مهمة واحدة فقط، حماية النظام. واستناداً إلى هذه الحقائق التي لا تقتصر معرفتها على الليبيين، فقد أدى سقوط القذافي ونظامه إلى سقوط الدولة بالكامل، ولم يعد هناك وجود لأي مؤسسة يمكن أن تساهم، بصورة أو بأخرى، في تقديم خدماتها، بل واختفت الأجهزة الأمنية التي كان لها أن تلعب دورا في الحفاظ على الأمن بعد انهيار النظام، الأمر الذي سبب إخفاقات كثيرة واجهت ثورة فبراير منذ أيامها الأولى، ولا تزال تداعياتها ماثلة، على الرغم من مرور سنوات عشر تلت تلك الانتفاضة.

أدى سقوط القذافي ونظامه إلى سقوط الدولة بالكامل، ولم يعد هناك وجود لأي مؤسسة يمكن أن تساهم، بصورة أو بأخرى، في تقديم خدماتها

كما يُعد انتشار الأسلحة بكل أنواعها، بما فيها الأسلحة الثقيلة، تحدّيا آخر، فشلت كل الحكومات المتعاقبة في التعامل معه، ولا تزال هذه الأسلحة سيفا مسلطا على رقاب الليبيين، وساهمت في الحد من قدرة الدولة على بسط سيطرتها، وحسم أمور كثيرة تتطلب القوة والحزم في تنفيذها. وقد أجّج مخزون هذا السلاح أوار الصراع، وساهم في انعدام الأمن وانتشار الجريمة المسلحة، وأدّى، في ما أدى إليه، إلى سلوك بعض المدن والقبائل لمسلك المنتصر على بعض القبائل والمدن الأخرى. وكان القذافي، في أيامه الأخيرة، قد انتهج سياسة "أنا وبعدي الطوفان"، حيث فتحت مخازن السلاح أمام الجميع، المخازن التي احتوت أسلحة صرفت عليها المليارات، حيث كانت ليبيا قد سجّلت إبان حكمه مستوياتٍ قياسيةً من الإنفاق العسكري، سواء من حيث المبالغ المطلقة، أو من ناحية نسبة هذا الإنفاق في الناتج القومي المحلي، وعندما انهارت كتائبه، تركت خلفها مخازن مليئة بالأسلحة، قدّرت بـ 90 مخزنا، دُمّر منها في أثناء الثورة 21 مخزنا، فيما سيطرت القبائل والمدن على المخازن الأخرى، ولم تستطع كل الحكومات أن تضع الخطط الناجعة للسيطرة على انتشار هذا السلاح، وإعادة تجميعه لدى السلطة المركزية. وقد تسببت محاولة الحكومات المتتالية استرضاء المليشيات المسلحة، وإعطاء المنتمين إليها رواتب، بزيادة في عدد المسلحين المنخرطين في هذه المليشيات من عشرة آلاف في عام 2011 إلى 25 ألفا بحلول 2020، حيث أصبحت هذه المليشيات إحدى المشكلات الرئيسية التي تقف عائقا أمام أي محاولة لقيام الدولة، لسبب بسيط، وهو خسارتها (المليشيات) هذه المزايا التي تنوعت بين مرتبات سخية من الدولة وأموال طائلة أخرى تحصل عليها بابتزاز القطاعات المختلفة.

 لا يمكن إغفال طبيعة المجتمع الليبي القبلية، والتي ساهمت، في أحيان كثيرة، في عرقلة الانتقال من الفوضى إلى الدولة

وفي السياق نفسه، لا يمكن إغفال طبيعة المجتمع الليبي القبلية، والتي ساهمت، في أحيان كثيرة، في عرقلة الانتقال من الفوضى إلى الدولة، من خلال محاولة هذه القبائل التمترس والاستقواء إما بأحلاف قبلية قديمة أو بإنشاء تحالفاتٍ جديدة تمكّنها من الدفاع عن نفسها، والحصول على مزايا وحقوق وحظوة، لا يمكن الحصول عليها إلا بمثل هذه التحالفات. ونتيجة الفراغ الأمني الذي تلا الانتفاضة، دخلت قبائل ليبية عدة في مواجهات وحروب مع قبائل أخرى، خصوصا تلك التي لها تاريخ عدائي بينها، الأمر الذي أدى إلى تفاقم المشكلات الأمنية والسياسية والاجتماعية، وشتت جهود الحكومات المتتالية التي وقفت عاجزةً عن إيجاد حل يرضي الجميع، بل وازداد الأمر سوءاً، عندما شعرت بعض القبائل بأن دورها قد همّش، ولم يعد لديها الثقل الذي كانت تحظى به فترة حكم القذافي نتيجة تحالفها القبلي معه، ما أدّى إلى تبنّي مجموعات قبلية لسياسة تجميع الأموال، وبأي طريقة، من أجل شراء أسلحة ثقيلة وخفيفة، قد تمكّنها من استعادة الدور الكبير الذي كانت تحظى به، وحتى يمكنها الدفاع عن نفسها إذا ما تعرّضت إلى أي استفزاز، باعتبار استمرار تصنيفها من القبائل التي لا تزال موالية لـ "ثورة الفاتح من سبتمبر"، أو على الأقل ساعية إلى إفشال ثورة فبراير.

وعلى الرغم من أهمية كل العوامل السابقة وتأثيرها السلبي على مسار الثورة الليبية، إلا أن الاتفاق على مشروع وطني واحد قائم على العيش المشترك، والعمل على إقامة مصالحة شاملة من دون إقصاء أي طرف، واستقاء دروس من التسوية الكبرى التي أدت إلى استقلال ليبيا في 1951، ستضمن التغلب على كل هذه العراقيل، خصوصا وأن في المجتمع الليبي من الكوابح والأعراف والنواميس والقيم التي لا تزال أقوى من السلاح المنفلت، والذي يمكن أن يعوّض ضعف الدولة، ويساهم في عودة الأمور إلى نصابها في وقت قصير. وبمجرّد ما يتحسّن أداء الحكومة، تلك الحكومة التي ينتظرها الليبيون هذه الأيام بفارغ الصبر، وكلهم أملٌ في أن تختلف من حيث استراتيجياتها عن سابقاتها، وأن تتزامن الذكرى العاشرة لثورتهم مع تحقيق بعض الطموحات التي يحلمون بها. وتبقى ثورة 17 فبراير حدثا فرض نفسه في تاريخ ليبيا، رحب به الليبيون أو أنكروه، حدثا يرى بعضهم أنه يُحتفل به لأنه أزاح ديكتاتورا، ويراه آخرون نكبة أدت إلى انزلاق البلاد إلى الفوضى، وخلفت آلاف القتلى والجرحى والانقسامات السياسية، وأنه لا يستحق الاحتفال.