التنافس الدولي ومكانة الحل السياسي في ليبيا
على الرغم من صدور وثيقتي الاتفاق السياسي الليبي في عام 2015 وخريطة الطريق للمرحلة التمهيدية في 2020، لم تحظ مُخرجات لجنتي الحوار بالسلطة الكافية للخروج من الحالة الانتقالية. ويثير إعلان مبعوث الأمم المتحدة، عبد الله باتيلي، طرح خطة انتقالية، النقاش من جديد، ليس بشأن إمكانية الوصول إلى إطار سياسي مؤقّت فقط، بل عن تأثير اختلاف الأولويات الخارجية للولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي وروسيا على الحل السياسي، من خلال تناول مدى اتساق خريطة مصالحها في ليبيا وقدرة الأمم المتحدة على تقديم أفكار وسياسات ابتكارية تتجاوز التراخي الدولي والتنافر الليبي.
شِباك أوروبية وأميركية
وفي وقت متقارب في يناير/ كانون الثاني الماضي، انشغلت السياسات الأوروبية والأميركية بملفات تمكين السلطة، والطاقة، والانتخابات. وبجانب نشاط السفيرة البريطانية، كارولين هورندال، في ليبيا، شهدت طرابلس زيارة كل من مدير المخابرات المركزية، ويليام بيرنز، ورئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني. ولاحقاً، شمل جدول الزيارات خليفة حفتر عندما التقاه كل من آمر القوات المُشتركة البريطانية، جيم موريس بمصاحبة سفيرة بلاده، ونائب قائد القوات الجوية في "إفريكوم"، جون دي لامونتاني. وتعكس خريطة الزيارات نوعاً من الاهتمام الغربي لمزاحمة الأطراف الأخرى.
وفقاً لسياق الأحداث، جاء موضوع النفط اهتماماً مشتركاً، وتكثيف العلاقات مع الفاعلين الليبيين لمكافحة قوة "فاغنر" الروسية بوصفها منظمة إرهابية، بالإضافة إلى إشارات لطيفة إلى ضرورة القاعدة الدستورية وإجراء الانتخابات. وبغضّ النظر عن الطبيعة الأمنية والعسكرية لهذه اللقاءات، فإنها تعكس محتوىً سياسياً لا يقتصر على ضمان ترشيح العسكريين في الانتخابات، بل يتجاوزه للتلاقي على فتح كل قنوات الاتصال من دون قيود أو شروط مسبقة، بما يعني التكيّف مع الوضع القائم.
اهتم الخطاب الأوروبي والأميركي بملفات توحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية وسحب القوات الأجنبية، بالإضافة إلى المطالب الأوروبية بوقف الهجرة غير المشروعة
وفي مستوى آخر من النشاط الدبلوماسي الغربي، تعمل السياسة البريطانية على تكوين شبكة علاقات عامة عبر التواصل المباشر مع الوجهاء الاجتماعيين وأعضاء المؤسّسات العامة والتشريعية وإظهار الاحترام للرموز التاريخية (زيارة ضريح عمر المختار) واللقاء مع محافظ المصرف المركزي، باعتبارها ضرورية لمصلحة ليبيا الوطنية. وبجانب حديثها عن توسيع الحوار بين الجهات الرسمية، فقد نشطت السفيرة في عقد اجتماعات مع الكيانات الاجتماعية على مستوى البلاد.
قد تعكس هذه السياسة نوعاً من تقسيم العمل/ التكامل البريطاني ـ الأميركي، وهو ما يظهر في العمل على مستويي التداخل مع البنية السياسية للمجتمع، وتثبيت قنوات الاتصال مع السلطة المحلية والجماعة الدولية. وبينما يقع الثقل الرئيس للسياسة الأميركية في اللقاءات الرسمية مع القادة السياسيين في ليبيا وغيرها من البلدان، تهتم بريطانيا، بطريقةٍ أقرب إلى المسح الأنثروبولوجي، باستكشاف السياسيين المحتملين. وبشكل عام، تتطابق مواقف البلدين تجاه مشكلة السلطة، عندما رجّحت السياسة البريطانية، في أغسطس/ آب 2022، مشروعية حكومة الوحدة الوطنية لاستناد مشروعيتها إلى الحوار السياسي والاعتراف الدولي، وربطت مهمتها بانتهاء الانتخابات، فيما اعتبرت قرار مجلس النواب بتشكيل حكومة أخرى غير كافٍ.
أولويات المصالح
على مدى الفترة الماضية، اهتم الخطاب الأوروبي والأميركي بملفات توحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية وسحب القوات الأجنبية في كل الاجتماعات، بالإضافة إلى المطالب الأوروبية بوقف الهجرة غير المشروعة من إقليم الساحل. وهنا، تبدو أهمية الاقتراب من جدول أعمال المسؤولين الأوروبيين والأميركيين، في ما يتعلق بقضايا الاستقرار والسِّلم. وإزاء حالة عدم الاستقرار السياسي، تبنّى ويليام بيرنز تقديم دعم لحكومة الوحدة الوطنية لمواجهة تحدّيات عدم الاستقرار وتمكينها من الوصول إلى حقول النفط وموانئه عبر تسوياتٍ، وذلك بجانب احتواء مجموعات "فاغنر" في ليبيا، ووقف انتشارها في إقليم الساحل والصحراء الأفريقي. وفي السياق نفسه، شغلت السياسات النفطية اهتمام الدول الغربية لتعويض نقص الإمدادات الروسية. كانت إيطاليا سابقة في عقد اتفاقية، 28 يناير/ كانون الثاني 2023، بقيمة ثمانية مليارات دولار، لتعود الشريك التجاري الأول، ولتشغل الرتبة الثانية في الواردات الليبية بعد تركيا.
وتكشف زيارة ويليام بيرنز ومسؤولين آخرين وترتيبات السلطة قاسماً مشتركاً عندما تظهر مقترحات للإبقاء على الوضع القائم وبناء سلطة مشتركة ما بين حكومة الوحدة الوطنية وقيادة الجيش، وهي محاولة تواجه صعوباتٍ بسبب تعدّد ارتباطات القوى السياسية الليبية، حيث تواجه محاولة دمج خليفة حفتر سياسياً معضلة ارتباط مصيره بوجود "فاغنر"، وبالتالي، تواجه المحاولات الأميركية أعباء ترويجه، ليكون من اللاعبين السياسيين.
تعمل السياسة البريطانية على تكوين شبكة علاقات عامة عبر التواصل المباشر مع الوجهاء الاجتماعيين وأعضاء المؤسّسات العامة والتشريعية
وحسب مساحات الاهتمام، حظي ملف الطاقة باهتمام رئيسي في السياسات الغربية، وبغضّ النظر عن هيمنة الشركات الغربية على قطاع النفط، تأتي اتفاقية الغاز بين ليبيا وإيطاليا ضمن توجّهات لتأمين مصادر الطاقة، وهو ما يُمثل احتياجاً مضاعفاً في ظل أزمة الطاقة بسبب حرب أوكرانيا. لقيت الاتفاقية تأييد دول الاتحاد الأوروبي، وذلك على خلاف رفضه مذكّرات تفاهم بين ليبيا وتركيا واعتبارها مخالفة للقانون الدولي للبحار وانتهاك حقوق السيادة للدول الأخرى. يمكن قراءة الموقف الأوروبي سياسة للاستحواذ على الثروة في ليبيا وخفض مساهمة الاستثمارات غير الأوروبية في ليبيا.
في غالبية الاتصالات السياسية، جاء الحديث عن الانتخابات على هامش التناول، وذلك في مقابل الإسناد الواضح للجهات التنفيذية، بحيث صار الحديث عن قوانين الانتخابات وآلياتها نوعاً من المجاملة الشكلية. وتعكس زيارة مدينة الزنتان، 24 يناير/ كانون الثاني 2023، جانباً من خرائط الاهتمام البريطاني في إثارة موضوع الانتخابات، حيث جاء ضمن سياق الحديث عن دعم تعليم اللغة الإنكليزية، وتصوير السياسة الروسية على أنها غير مهتمة بمصلحة ليبيا وأكثر تهديداً للاستقرار.
المساومة الغربية ـ الروسية
وعلى مسارٍ مناظر، ومع تحسّن أداء مجموعات فاغنر في أوكرانيا، يتبلور التنافس الغربي ـ الروسي في ليبيا، مُستنداً إلى اتهامات متبادلة بدعم الإرهاب. وقد وجّه وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، اتهامات لفرنسا بدعم الإرهاب، وباستثناء التصريحات الروسية على أهمية اضطلاع الليبيين بالحل السياسي. لم يكن لدى روسيا اقتراحات متماسكة للمشكلة الليبية، واكتفت بوضع تقييم يقوم على أن استغلال البلدان الغربية لقرارات مجلس الأمن سبّب تدمير البنى التحتية ونشر السلاح. لكنها أعادت تقييم سياستها في 2014، ولموازنة النفوذ الغربي، تدخلت روسيا على جبهتي سورية وليبيا لتوطيد دورها عندما طوّرت وجودها العسكري في سورية عام 2015، ونشرت مجموعات فاغنر في ليبيا، بجانب التركيز على الاستثمار في القوى السياسية في شرق ليبيا لتصير واحداً من الفاعلين الرئيسيين.
وبعد اتفاق الصخيرات في 2015، مرّت السياسات الغربية بمراحل، أهمها، محاولة تثبيت حكومة الوفاق وتمكينها من إدارة الموارد، غير أنه، مع تزايد الصراع، تلاقت الدول الغربية وروسيا لإطاحة الحكومة في معارك أغسطس 2018 وإبريل 2019، لتمكين "خليفة حفتر" من السلطة، لكنه مع تزايد عديد مجموعات الفاغنر والسلاح الروسي، تَغير موقف الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، حيث رتبت أولويتها لمنع الروس من الوصول إلى العاصمة.
على أية حال، ارتبط التغير الأميركي والأوروبي بظهور القوات الروسية قريبة من طرابلس، ولذلك، شهدت السياسة الأميركية تغيراً حاداً، شاركت فيه جهات وزارة الخارجية، الدفاع والأمن القومي لمعادلة التدخل الروسي لحساب خليفة حفتر. ولاحقاً، ظهرت الخلافات بسبب تزايد السلاح الروسي، وخصوصاً مع إسقاط مُسيرة أميركية فوق بنغازي في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. تثير هذه الملاحظة جانباً من هامشية الخلافات الظاهرية، والتوافق في مرحلة ما على تقويض الحكومات المُعترف بها دولياً، وبصورة تُضعف الثقة في الكلام الدائم عن الحل السياسي.
البعثة الأممية: الحلقة الرخوة
في هذه السياقات، تظهر محاولات بعثة الأمم المتحدة لطرح أفكار للحل السياسي تقوم على توصل مجلسي النواب والدولة لإطار دستوري للانتخابات أو تكوين لجنة حوار جديدة للبحث عن توافقات بين القوى المتنفذة في السياسة الليبية، تبدو المعضلة هنا في مرور القاعدة الدستورية بمشوار من التلاعب، فيتماثل محتوى وسياق الاقتراح الدستوري رقم 13 مع المرّات السابقة في القصور عن الاستجابة لنقاط الخلاف بين المجموعات السياسية.
تواجه المرحلة الجديدة معضلة عدم احترام الآجال القانونية وظهور تأويل ذاتي بالاستمرارية
ومنذ تعيينه مبعوثاً خاصاً في سبتمبر/ أيلول الماضي، تقاربت تحرّكات عبد الله باتيلي مع طرق سابقيه من وجهة توسيع المشاورات ونقلها لمجلس الأمن مصحوبة باقتراحات لمعالجة أسباب تَعَطل الجدول الزمني، ويحاول تقديم إجابة من خلال التعرف إلى خلفيات عدم احترام نتائج الحوار السياسي، وتقريب مواقف دول الجوار تجاه الحل السياسي وتوفير الضمانات الأمنية. تبدو هذه التوجهات تقليدية للغاية، وظهر انخفاض فاعليتها في السنوات السابقة، ليس بسبب نقص الإرادة اللازمة لتحييد تسابق الدول على اقتسام النفوذ فقط، بل لاستمرار استصحاب ذات الفاعلين المحليين، رغم ميراث خلافاتهم الدائمة، ما يمثل قيداً على الوصول إلى توافقات خارج المجموعات الحاكمة، ويضعف فرصة تقديم حلٍّ عبقري يتجاوز الوضع الراهن.
وعلى أية حال، تواجه المرحلة الجديدة معضلة عدم احترام الآجال القانونية وظهور تأويل ذاتي بالاستمرارية، ساهمت هذه الأجواء في تفويت مصالح الدولة والإبقاء على مجموعات سياسية متعارضة المصالح، فعلى الرغم من تنظيم طرق انتقال السلطة بين الحكومات المتتابعة، استمرّ النزاع بين الجهات التشريعية والتنفيذية. لذلك، تزامن وجود مجلسي النواب والدولة، بالإضافة إلى تعدّد الحكومات التنفيذية على مدى ما يقرب من عشر سنوات. وتشير الخبرة الانتقالية لبقاء السلطة حتّى يتمّ انتخاب أخرى، ووفق المادة الـ18 من الاتفاق السياسي استمرار مجلس النواب. قد تمتد الاستفادة من هذه الميزة للمؤسسات الأخرى حتى انعقاد الانتخابات، وقد أقرّ مجلس الأمن رقم (2647/ 3) بسلامة تصرّف حكومة الوحدة الوطنية في تغيير مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، عندما تبنى استمرار خريطة طريق المرحلة التمهيدية.
في المرحلة الحالية، لا يتوافر نشاط دولي مساند لظهور خريطة جديدة، كما في الحالتين السابقتين عندما توافق مؤتمر روما في 2015 على دعم الحوار الساسي. وأيضاً، في ظهور خريطة الطريق كاستجابة لمؤتمر برلين يناير/ كانون الثاني 2020، بل على العكس من ذلك، تتصاعد تطلعات الاستحواذ الغربي على النفط وتسوية أوضاع المجموعات الحاكمة، ما يجعل الخلاف على القاعدة الدستورية أمراً ثانوياً.
لا توفر هذه السياقات مؤشّرات واضحة على إمكانية عقد الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، حيث تبدو معضلة الوضع العسكري والأمني وتعقيداته، وهي مشكلات تتجاوز توحيد الجيش وتمديد سيطرة الحكومة على الأراضي الليبية إلى دمج المسلحين، وهنا تواجه سياسات تحويل الصراع تحدّيات من ثلاثة مصادر: النفوذ الروسي، الاستثمارات الدولية في السياسة الليبية واختلاف الدول الإقليمية. وعلى الرغم من الصعوبات الظاهرة، يقع نجاح مرحلة مؤقتة جديدة بين بديلين: إما تمكين لجنة الحوار من وضع الإطار الدستوري للانتخابات بما يضمن مشاركة الجميع، وإما تكوين إدارة دولية مباشرة لتنظيم الانتخابات.