التمرين الفاشل الذي أنتج ذلك البؤس التونسي
عندما تُغلق أبواب الاحتمالات العقلانية لنهاية كابوس من فعل البشر، كحال ذلك البؤس التونسي المسمّى حقبة قيس سعيّد، لا يبقى إلا اللوذ بعالم الخيال. جدران شاهقة تحجب اليوم استشراف أي شكلٍ ممكنٍ للتغيير بعد مرور أربع سنوات على حمل أيادٍ كثيرة قيس سعيّد إلى حيث هو، على كرسي الاستبداد العدمي. عدم يجمع في تعريفه شعبوية اليمين واليسار معاً في العبارة إياها والسلوك نفسه، شعبوية احتكار الخطاب الديني ومناهضة أي طرفٍ آخر يعرّف نفسه بالهوية الدينية، شعبوية التسلط باسم الديمقراطية، الكذب ثم الكذب باسم العلم والتاريخ، شعبوية العنصري، غباء أو استغباء من يجعل من تسمية العاصفة "دانيال" مؤامرة صهيونية، شعبوية قتل السياسة، شعبوية عزل البلد عن العالم مع الاكتفاء بخطوط إمداد خارجية ضئيلة مع يمين أوروبي لا يريد من قيس سعيّد أكثر من منع عبور المهاجرين الأفارقة إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط، بينما لا يريد قيس سعيّد من ذلك اليمين سوى تحرير شهادات براءة بشرعية حكمه بوصفه شريكاً موثوقاً فيه.
الأيادي الكثيرة التي حملت قيس سعيّد ذات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 إلى السلطة، بانتخابات عامة، كثير منها صار اليوم مكبّلا، وبات أصحابها في السجون أو مرشحين للالتحاق بالسجناء. من بين هؤلاء كل من أوعز إلى حركة النهضة بانتخاب الرجل في الدورة الثانية، وفي مقدمهم رئيس الحركة راشد الغنوشي. يساريون بالجملة، أحزاباً وأفراداً ونقابات يجمعهم الاتحاد التونسي للشغل شاركوا في مهرجان الاستبداد العدمي وقد التقوا في منتصف الطريق مع أعدائهم من الإسلاميين الناخبين لقيس سعيّد بحجة منع رجل الأعمال نبيل القروي من الفوز. كثر أيضاً من أحزاب العائلة الدستورية شاركوا في الاحتفال الذي تكلل بحصول الرئيس ــ الصنم على 72.1% من أصوات الناخبين، في لحظة إجماع هو بحدّ ذاته نقيض للتعدّدية والتنوع في بلد متنوع سياسياً فعلاً كتونس بعد تسع سنوات من انتقالها الديمقراطي. وبعد مرور عامين (2019 - 2021) من "الإجماع الديمقراطي" (مع ما تختزنه العبارة من تناقض)، قلّت الأيادي الحاملة لهذا المشروع العدمي، لتحل مكانها مؤسسات خشنة لا تحتاج لأيادٍ ناعمة، لا لكي تحملها ولا لتصفّق لها. دخلت الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة على الخط فتحقق انقلاب 2021 من دون ضربة كفّ. الأحزاب، كل الأحزاب التونسية، ظهرت على حقيقتها، مجرد هياكل وأسماء وبيانات صحافية بائسة. يميناً، إسلامياً وعلمانياً ووطنياً وقومياً، ويساراً، كل ما حصل منذ عامين وشهرين، هو بمنزلة الفضيحة. أكبر تجمّع شعبي رافض للانقلاب في تونس لم يستطع جمع أكثر من ألف أو ألفين أو آلافاً ثلاثة من المواطنين. لا عصيان مدنياً ولا جبهة معارضة موحدة. مجرد فدائيين من "جبهة الخلاص" ومعتقلين ليس بيدهم سوى الإضراب عن الطعام لبضعة أيام. تسريع قيس سعيّد وتيرة ضرب مكتسبات العشرية الديمقراطية قابلها "الشارع" بضمور مطّرد، بكلام كثير وبفعل ضئيل. الطريق بانت سالكة للانتقال إلى مرحلة متقدمة من العبث سيراً في خرافات تأسيس نظام حكم مجلسي لا سياسة فيه، من خلال بدعة استشارات إلكترونية وكتابة دستورٍ هو عار على هذه الكلمة وعلى اللغة وعلى السياسة والديمقراطية وكل ما فعلته تونس طيلة سنوات التمرين الديمقراطي.
الاعتراف بأن الديمقراطية تمرينٌ نتيجته غير مضمونة سلفاً، لا ينطبق على تونس فحسب. لكن تونس تفضح في هذا المجال لأنها ذكّرتنا كم أن التمرين الفاشل يأتي بنتائج عسكية لما كان يجدر أن يُنتجه أي تدريب. تمرين الأعوام الـ11 التي فصلت بين نجاح التغيير الديمقراطي وانقلاب قيس سعيّد لم يكن كافياً لإقناع من كان يجب أن يقتنعوا، بأن الديمقراطية لا تستوي من دون تنازلات متبادلة، من دون تحالفات، من دون كسر أفكار نمطية من الإسلاميين تجاه اليساريين والعكس بالعكس، من دون أن يشعر الاتحاد التونسي للشغل وجمهوره بأن شعبوية يسارية كشعبويته في مناهضة كل من يختلف معه عقائدياً، لا تأتي إلا بقيس سعيّد أو بأشباهه.