التفكير خارج الحاوية

04 يونيو 2023

(أسادور بيزديكيان)

+ الخط -

من قال إن الأحلام العظيمة لا تتحقّق؟ أُحيل المتشكّكون على مواطن أردني بسيط يقطن إحدى بلدات الجنوب. وللجنوب في التقسيم الاقتصادي العالمي موضعٌ يقترن بالفقر، دوماً. وفي الشعر الحديث يقترن الجنوب بالطيبة والنقاء، أو كما سمّاه الشاعر اللبناني شوقي بزيع "خزّان الحنان"، باعتباره شاعراً جنوبيّاً اختبر مزيج الفقر والكرم والمقاومة في دورق بشريّ واحد.
امتلك هذا المواطن الجنوبيّ حلماً عظيماً لم يتنازل عنه سنوات، قوامه الحصول على حاوية قمامة لحارته التي عانت التهميش، كحال معظم بلدات الجنوب، لكنه لم ييأس أو يفقد الأمل، بل ظلّ يراجع البلدية، مصرّاً على طلبه، إلى أن تحقّق "الحلم" أخيراً، ليستفيق ذات صباح على "العروس" جاثمة أمام بيته، فلم يتمالك نفسه من الغبطة، وسرعان ما خطّ على الحاوية بالدّهان الأحمر عبارة: "نوّرتي الحارة"، والتقط لها شريط فيديو عرضه على مواقع التواصل الاجتماعي، ليحتلّ الشريط مقدّمة المواضيع الأكثر مشاهدة وتعليقاً في الأردن لأيام عديدة، وليغدو خبراً طريفاً في وسائل الإعلام المحلية.
إلى هنا، ينتهي الخبر وتطوى صفحة الحاوية، بعد أن يقهقه بعضُهم على مثل هذه المفارقة غير المسبوقة في عالم الكوميديا الشعبية، على اعتبار أن للفقراء انتصاراتهم الصغيرة في صراعات البقاء اليومية، مقابل خساراتهم العظمى مع الغول نفسه، غير أن للخبر نفسه شعاباً أخرى لا يعلمها إلا الفقراء، وحدهم، بعيداً عن أولئك الذين تجاوزوا عقدة "التفكير داخل الحاوية"، وعالجوا صراع البقاء وجوديّاً، واستطال ليصبح صراعاً على المراتب والمناصب. 
لم يقل الخبر، مثلاً، إن المواطن إياه، بعد أن حقّق نصره "الصغير"، وخفت صخب الاحتفال، وقف أمام الحاوية الفارغة متسائلاً بماذا يملأها؟ وهل ثمّة نفايات تخرج من بيوت الفقراء، أصلاً؟ لو كان ذلك كذلك لما هاجرت قطط الحيّ منذ زمن بعيد، فهل كان حلمُه محض مطالبةٍ بالمساواة مع أحياء مليئة بالحاويات المتخمة؟ وهنا سيجد المسؤولون عن الحاويات ذريعة تسوّغ لهم المماطة في تلبية طلب هذا المواطن؛ وسيكون أول سؤالٍ حال تلقّي عريضته: ما حاجة هذا المواطن للحاوية، أصلاً؟ أليس الأجدى أن نوزّعها على من يعانون فائضاً هائلاً في الطعام والشراب والمخلّفات؟ أيضاً، لماذا لم يبدأ المواطن إياه مطالبه من رأس الحقوق، كالحقّ في التوزيع العادل للثروات الوطنية، أم أنه أراد الانطلاق عكسيّاً من الحقّ الأدنى إلى الأعلى؟ وفي ذلك وجهة نظر قد تكون محقّة، فقد نرى الحلم يستطيل بعد سنواتٍ ليطالب المواطن نفسه بإضاءة شوارع الحيّ ليلاً، أو بإنشاء محطة للباص السريع، على غرار ما حظيت به العاصمة أخيراً، على الرغم من الإيقاع البطيء الذي تشتهر به الحكومات المتعاقبة، ولا سيّما في تحقيق الحريات، مقابل السرعة في التخلّي عنها بذرائع واهية.
ولم يقل الخبر، أيضاً، إن إصرار المواطن إياه على الحاوية لم يكن إلا انسجاماً مع الخواء الذي تعيشه أغلبية المواطنين الذين يواجهون متطلبات العيش بجيوب فارغة، وأرصدة خاوية، تتجاوز أعمارهم بكثير. فهل كان هذا المواطن يبحث عن نوع من التماثل بين حياة الداخل والخارج، فالبيت فارغ، والجيب فارغ، والرصيد فارغ، والمستقبل أكثر فراغاً... إذاً، عليه أن يرى الحاوية التي ستقع عيناه عليها حال خروجه من بيته فارغة أيضاً؛ ليتحقق التوازن النفسيّ في صراعه مع البقاء.
عموماً، ما لم يقله الخبر، أن أكثر من يفكّرون خارج الحاويات هم الفقراء، وليس المسؤولون المصابون بالرعب من الحاويات، منذ أن شاهدوا مسؤولاً أوروبيّاً يُلقى في حاوية القمامة على أيدي بعض المتظاهرين الذين رأوا فيه فائضاً عن الحاجة، أو سياسيّاً انتهت مدّة صلاحيته وما زال مصرّاً على التشبّث بمنصبه.
وعلى هامش الخبر، ثمّة عبارة صغيرة مخطوطة بالدهان الأحمر على الحاوية لم يقرأها أحد: الحاويات ليست للقمامة فقط.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.