التفاؤل والتشاؤم السياسي .. أردنياً
يستدرج النقاش الحالي في الأردن عن التفاؤل والتشاؤم في مسار الإصلاح الديمقراطي إشكالات وتحدّيات عدة، منها ما حدث منذ الربيع العربي في 2011، إذ أطاحت الأعاصير والعواصف والأزمات الداخلية الاستقرار السياسي والتجارب الديمقراطية الوليدة. وتحدّيات الحالة الأردنية متمثلة بالموقع الجيوستراتيجي والتأثير الهائل للعامل الخارجي والإقليم المحيط وسياسات الدولة الصغيرة محدودة الموارد، والسياسات الاقتصادية والتركيبة الداخلية... ثم التجارب الأخرى الناجحة والفاشلة في الصيرورات الديمقراطية في الدول الأخرى.
تُطرَح نماذج متعدّدة وأسئلة مهمة، منها ما يرتبط بالسيناريو السنغافوري في المجال السياسي، ومنها ما يتعلّق بالسيناريو الإسباني الذي يقترب، في جملةٍ من سماته وطبيعته، من دول عربية عدة، ومدى إمكانية الإفادة منه أردنياً، بخاصة ما يتعلّق بسؤال الإصلاح من داخل النظام ومنطق الصفقة التاريخية التي تؤدي إلى انتقالٍ متدرّج عميق راسخ آمن إلى تكريس المؤسسات الديمقراطية وترسيخها.
رهان المتفائلين يقف بقوة عند أهمية توليد أحزاب متنافسة تكون قادرةً على تقديم بدائل وخيارات استراتيجية متنوّعة للمواطنين، بما يحرّك القواعد الاجتماعية والمصالح المتعلقة بها نحو اللعبة السياسية، وبناء اشتباك إيجابي بين القوى المختلفة، وصولاً إلى توازناتٍ مهمةٍ وحيويةٍ للقوى السياسية، مع إدراك مدى التشابه في مسألة وجود قوى عديدة، تمثل خطاباتٍ فكرية متضاربة؛ بعضها محافظ ويميني، والآخر راديكالي ومتشدّد، بعضها ليبرالي وآخر يساري وثالث يميني وهكذا. إلّا أنّ التوافق هو على وجود شروط رئيسية وحاسمة في إمكانية نجاح سيناريو الصفقة ونجاعته؛ يتمثل بوجود نخبة سياسية شجاعة داخل النظام، تملك قراراً سياسياً بتجاوز الوضع الراهن، وتدرك عدم إمكانية الاستمرار في المعادلات القائمة وخطورتها على السلم والاستقرار السياسي من جهة، ووجود معارضة عقلانية معتدلة، تساعد على إيجاد قاعدة اجتماعية داعمة للإصلاح المنشود وللعبور نحو مسارٍ سياسي مختلف، يتفق الطرفان على معالم التحوّل المنشود، ويقوم كلّ منهما بدوره ..
الطرف الأول، النخبة المنفتحة في النظام تعمل على بناء شروط الانفتاح السياسي، وتهيئة البيئة المناسبة للحريات العامة، ولتعزيز حقوق الإنسان وتجريم العنف السياسي. وحدث في إسبانيا أن جرى بالفعل مع عهد الملك خوان كارلوس (في النصف الثاني من السبعينيات) ورئيس وزرائه الليبرالي، أدولفوا سواريز، إطلاق المعتقلين السياسيين، وإرسال برقيات واضحة بالمضي إلى الأمام، وسنّ قوانين توافقية في الطريق الجديدة. أما الطرف الثاني، أحزاب المعارضة، فتبنّت رؤى جديدة، وتسلمت القيادة فيها نخب سياسية، قامت بعملية التحول، بخاصة كل من الحزبين، الاشتراكي العمالي والشيوعي، اللذين أعادا تدوير الزوايا الحادّة في خطابهما السياسي، وانتقلا إلى مربعات الاعتدال والتفاهم مع الدولة.
صحيحٌ أنّه، في البداية، شهدت البلاد نمواً كبيراً للأحزاب، لكن مع تكريس الديمقراطية وترسيخ قواعد اللعبة الجديدة، بدأ المشهد الحزبي بالتطوّر والتحسّن بمرور الوقت، وبدأت الثقافة السياسية لدى المجتمع الإسباني بالتطور والتحسّن مع تطور العملية الديمقراطية، بعدما كانت، في بداية التحول، مرتبطة بالزعامات الشعبية والخطابات الرنانة.
بالضرورة، لا يمكن القفز عن الاختلافات والتباينات الكبيرة بين الحالتين، الإسبانية والعربية، عموماً، لاستلهام الدروس، بخاصة ما يرتبط بالعوامل الخارجية والداخلية (ولا سيما الاقتصادية). وفي المقابل، هنالك كثير يمكن تعلمه من هذه التجربة المهمة والقريبة زمنياً للمشهد العربي. وقد يقال أردنياً إن خطواتٍ كثيرة حدثت في إسبانيا أنجزت فعلاً في الأردن، بداية التسعينيات، بخاصة التحوّل الديمقراطي وإزالة القوانين المضادّة للديمقراطية، وتوافق القوى السياسية في الميثاق الوطني 1991 على ثوابت الدولة وقيمها؛ ومنها الحكم الملكي والدستور والتعدّدية السياسية والحزبية، لكن جزءاً مهماً من ذلك تراجع سريعاً مع مرور الوقت، وتلك الحجج منطقية ولها وجاهة، لكنّها مدعاة لأن نعيد التفكير ودراسة العوامل المؤثرة فعلاً على تراجع النموذج والمخاوف المتبادلة بين القوى السياسية والمجتمعية، وتأثير العوامل الخارجية والداخلية المضادّة.
فوق هذا وذاك، يبقى سيناريو الصفقة وتمهيد الطريق لنمو الأحزاب السياسية مساراً آمناً متدرّجاً معتبراً، لكنه مشروط بتوافر الإيمان والقناعة لدى الطرف المنفتح داخل النظام أولاً بالخيار العقلاني المعتدل، وبأهمية التوافق على عقد الصفقة وتعبيد الطريق نحو ذلك، ومن يتابع خطاب المعارضة الأردنية، لا يعجز عن إدراك توافر الشركاء الاستراتيجيين لذلك.