التظاهر فعل وجودي في مصر
أصبح التظاهر، في منعطف الألفية الثالثة، حالةً عاديّة وسلوكا يكاد يكون يوميّا في الدول المتقدّمة ومعظم البلدان النامية. ذلك أنّه حقّ مشروع، أقرّه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة (1948)، ورسّخته المواثيق الدولية والمنظمات الحقوقية والدساتير المدنية، وتلتزم باحترامه معظم الأنظمة السياسية في العالم. لكنّ الأمر في مصر خلاف ذلك، فالتظاهر، في ظلّ حكم شمولي، يبدو أقرب إلى المحال منه إلى الإمكان، فمنذ اعتلى المشير عبد الفتاح السيسي سدّة الحكم عقب انقلابه على محمّد مرسي، أوّل رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، أقدم النظام العسكري على إدارة البلد بقبضةٍ أمنيةٍ حديدية، فتمّ غلق المجال العام، وجرت عسكرة ميادين الاحتجاج، ومدّ الجيش نفوذه على معظم المجالات الحيوية في البلاد، وانحسرت الحرّيات العامّة والخاصّة بشكلٍ غير مسبوق. وانتقل التظاهر من كونه فعلا حرّا بعد ثورة 25 يناير في العام 2011 إلى كونه فعلا محظورا وعملا مجرّما إثر استيلاء السيسي على السلطة. وواجه النظام الحاكم في عهده جلّ محاولات التظاهر بقوّة السلاح، وزجّ آلاف المحتجّين في غياهب المعتقلات. وعلى الرغم من استمرار السياسات القامعة، ما انفكّ طيفٌ من المصريين ينزلون إلى الشوارع، ويمارسون الإحتجاج تعبيرا عن وجودهم، واعتراضا على سياسات النظام الجائرة. ومدار السؤال هنا: لماذا تخاف السلطات المصرية فعل التظاهر؟ ما هي ملامح الحراك الاحتجاجي الجديد في مصر؟ وما هي دلالات مغامرة الناس بالخروج على نظام سلطوي/ أحادي؟
حالة خوف السلطات المصرية من حركة التظاهر جليّة من خلال مشهدين بارزين على الأقل: عسكرة الشارع والهجمة الإعلامية الشعواء على المحتجّين ودعاة التظاهر
حالة خوف السلطات المصرية من حركة التظاهر جليّة من خلال مشهدين بارزين على الأقل: عسكرة الشارع والهجمة الإعلامية الشعواء على المحتجّين ودعاة التظاهر. في المستوى الأوّل، ترى بسهولة أنّ ميادين الاحتجاج الشهيرة في المدن الكبرى تحوّلت إلى أشبه بثكنات عسكرية من كثرة المدرّعات والحواجز البوليسية المحيطة بها، حتّى أصبح الوصول إليها والاحتجاج فيها صعبا بل محالا. كما تتركّز نقاط أمنية مكثفة قرب المساجد والجامعات والنقابات المهنية. وبمجرّد شيوع خبر الدعوة إلى التظاهر يوم 20/09/2020، بادرت السلطات الأمنية إلى غلق عدد من المقاهي، والميادين الرياضية، وأوقفت بعض خطوط النقل العمومي أو غيّرت مواقيتها، حتّى لا يستغلّ المحتجّون أماكن التجمّع تلك لتحشيد النّاس، وتثويرهم ضدّ الزمرة الحاكمة. وبالتوازي مع ذلك، نشطت الآلة الإعلاميّة الرسمية لتروّج خطابا مناوئا لفعل التظاهر، يتأسّس على شيطنة المحتجّين وتخوينهم، وترذيل الاحتجاج ووصله بالتخريب، واعتباره فعْلا فوْضويا، سلبيّا، لا يخدم الصالح العام، والقول بأنّه مؤامرة خارجية، تستهدف "منجزات الرئيس ومكتسبات المصريين على عهده". ويُمكن تفسير هذه الخشية المتزايدة من التظاهر في صفوف النظام الحاكم وأعوانه بأنّ الجميع يُدرك أنّ التظاهر السلمي حالةٌ تعبيريةٌ جمعية، وقوّة تعبوية شعبية، أثبتت قدرتها على إحداث التغيير في الراهن السياسي المصري. لذلك هم يخشون اندلاعها، ويخافون مآلاتها وتداعياتها، فقد سقط حسني مبارك من سدّة الحكم بقوّة التظاهر الشعبي السلمي، وركب الجيش بعض الإحتجاجات الشعبية ليطيح محمّد مرسي من الحكم عُنوة، وأقدمت قوّات عبد الفتاح السيسي على فضّ مظاهرات شعبيّة في ميداني النهضة ورابعة العدوية بقوّة السلاح، وخلّف الحدث استياء واسعا في الداخل والخارج، وأثار حفيظة المنظمات الحقوقية الدولية، وعزَل ذلك نظام السيسي فترة، ووسم حكمه بلون قمعي منذ البداية. لذلك يخشى النظام المصري من الدخول من جديد في مواجهاتٍ دمويةٍ واسعة مع المتظاهرين. يضاف إلى ذلك أنّ السلطات المصرية غير مقتنعة بسلامة التدابير الاقتصادية الموجعة والقرارات السياسية الجائرة التي اتخذتها القيادة ضدّ الناس. وهي تخشى من بوادر الإحتجاج، لأنّها قد تتحوّل إلى ثورة تغييرية عارمة ضدّ المنظومة الحاكمة في كلّيتها.
32.5% من المصريين يعانون من الفقر المدقع. وجلّ المشاركين في المظاهرات من الفلاّحين، والباعة الجوّالين، والعاطلين عن العمل، والحرفيين الصغار
ويمتاز الحراك الإحتجاجي الجديد في مصر بملامح أهمّها أنّ التظاهر لم يندلع في بداياته داخل المدن الكبرى، كما جرت العادة في معظم الحركات الإحتجاجية السابقة. بل برز الاحتجاج في شكل مجموعات اعتراضية، متفرّقة، تنتشر خصوصا في المناطق الطرفية المهمّشة، وفي الأرياف والقرى والتجمّعات السكنية الفقيرة، المحيطة بالمدن الكبرى، وهي مناطق تجاهلها النظام السياسي المركزي طويلا. وتعاني من ارتفاع نسبة الفقر والبطالة، وتدهور المقدرة الشرائية، ولا تتوفّر فيها خدمات القُرْب ومراكز الرعاية الأساسية. لذلك سمّى مراقبون هذا الحراك الاحتجاجي "ثورة القُرى" و"انتفاضة الغلابة والمفقّرين"، خصوصا أنّ 32.5% من المصريين يعانون من الفقر المدقع، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري. وجلّ المشاركين في المظاهرات من الفلاّحين، والباعة الجوّالين، والعاطلين عن العمل، والحرفيين الصغار، وأغلبهم من الشباب والمراهقين، وهو ما يُخبر بضيق الأجيال الصاعدة من سياسات النظام العسكري القائم. ولا ينتمي هؤلاء إلى حزب محدّد، ولا يدينون بالولاء إلى زعيم معيّن، ولا يأتمرون بأوامر نقابةٍ ما، وهو ما يجعل احتواءهم أو اختراقهم صعبا. وهم، إذ يتظاهرون، إنّما يستجيبون لسياسات النظام الجائرة التي أدمتهم وأرهقتهم. وجلّ مطالبهم معيشية، جامعة، تتعلّق بالإحتجاج على هدم السلطة بيوتا أفنوا أعمارهم في بنائها، وللتعبير عن امتعاضهم من مشروع صلحٍ مغشوشٍ وجباياتٍ مشطّة مفروضة عليهم، وكذا للاعتراض على غلاء الأسعار، وشيوع الاحتكار، وعلى تعويم الجنيه، وسوء إدارة أزمة كورونا، والتفريط في حصّة مصر من نهر النيل. ويبدو أنّ ضيق المعاش وانسداد الأفق السياسي واتساع دوائر القمع دفعتهم أيضا إلى المطالبة برحيل النظام، وتحكي ذلك شعارات: ارحل يا سيسي، مش عايزينك، الشعب يريد إسقاط النظام .. وانتشار المظاهرات السلمية جغرافيّا في بلدات عديدة في مصر من أقصاها إلى أقصاها يبيّن امتداد الغضب من السلطة السائدة داخل العمق العمراني المصري، ويُشتّت الجهد الأمني في السيطرة على حركة التظاهر، لأنّها لا تنحصر في ميدان محدّد أو مدينة معيّنة، فتسهل محاصرتها وسدّ المنافذ المؤدّية إليها. كما أنّها ممتدّة في الزمان والمكان، وتراوح بين الظهور ليلا ونهارا في قرى كثيرة وبأعداد متباينة، وهو ما يزيد من صعوبة تعقّبها. ومن غير البعيد، في ظلّ استمرار التعاطي الأمني دون غيره من المقاربات العلاجية في التعامل مع حالة التظاهر، أن يتّخذ الحراك الاحتجاجي في بلدات داخلية وطرفية أشكالا أخرى، من قبيل تنظيم اعتصامات وإضرابات عامّة، وصولا إلى العصيان المدني.
حركة التظاهر المشهودة في مصر عنوان صراع بين الطبقة الحاكمة والشعب المهمّش على امتلاك الشارع والفضاء العام
سيميولوجيّا، يمكن القول إنّ حركة التظاهر المشهودة في مصر هي عنوان صراع بين الطبقة الحاكمة والشعب المهمّش على امتلاك الشارع والفضاء العام، وهي إعلان تحدّ صريح لمن قال إن "ما حدث في ثورة يناير 2011 لن يتكرّر أبدا". وتداول شعارات من قبيل: "إحنا ما بنتهدّدوش"، "قول ما تخافشي، السيسي لازم يمشي"، "ارحل يا سوسو .. الشعب بيِدّي دروسو" دليل على أنّ الشعب المتتفض يعتبر نفسه مصدر السلطات، وأنّه هو من يقرّر مصير البلد، ولا يقرّره فرْد أو جهاز دعائي أو طبقة متنفّذة. يقول أحد المحتجّين: "نريد كسر غرور السلطة، وإزالة حاجز الخوف، ووضع حدّ للظّلم"، فالتظاهر عندهم فعل جمْعي، وجودي، يحمل طيّه رصيدا أخلاقيا وطاقة تحويلية وأهدافا تحريرية مكثفة. وهو تأكيدٌ لكيْنونة المفقّرين في وجه المُتبرجزين، وإعلاء لصوت المستضعفين في ظلّ امتداد المستكرشين، وهو صحوة المدنيين ضدّ هيمنة العسكريين. والمتظاهر المصري، إذ يتظاهر في قِلّةٍ أو كثرة، إنّما يريد أن يمارس حقّه في قول "لا"، ولسان حاله يقول: "أنا أتظاهر إذن أنا موجود". وهو إلى ذلك يبعث رسائل إلى الداخل والخارج، مفادها بأن روح الثورة ما زالت حيّة داخل الاجتماع المصري، وأنّ الناس سئموا الوجوه المكرورة، والسياسات القديمة، والحكم الأحادي، والوعود الزائفة، وهم توّاقون إلى التغيير، تحقيقا للحرّية والعدالة، والكرامة والرّفاه.
ختاما، كلّما عاد التظاهر واستمرّ القمع في مصر، دلّ ذلك على تآكل سطوة الزّمرة الحاكمة وتراجع شعبيتها، وفشل أجهزتها الإعلامية في التعتيم على الحقائق، وفي تزييف الوعي، واستبلاه الناس. وأحْرى بالمتنفّذين في هيئات الحكم الإنصات إلى مطالب الجموع المنتفضة، والمبادرة برفع اليد عن المجال العام، والإفراج عن سجناء الرأي، وتأمين حرّية التعبير والتفكير والتنظّم، والعمل على تحسين معاش النّاس. وإنْ لم يفعلوا، وآثروا التمادي في خطاب الكراهية والإقصاء والإنكار، فإنّ الأوضاع في مصر تتّجه إلى مزيدٍ من التعقيد، والاحتقان، والتأزيم، وسيؤدّي تراكم الكبت والقمع والغضب إلى انفجار ثوري جديد لا محالة.