التطبيع الإماراتي والبحريني واستتباع المنطقة لإسرائيل
برّر كتاب كثر، تحت بند الواقعية، التصرّفات الإماراتية البحرينية، في ما يخص التصرف نيابة عن الفلسطينيين والمنطقة في تسوية القضية الفلسطينية تحت بنود صفقة القرن، فيما حذّر كتابٌ نابهون مرارا من أن هذه الاتفاقات ليست إلا مقدّمات لإعادة رسم خريطة المنطقة، ربما على خطوط أقسى وأشد وطأةً من خطوط سايكس بيكو مطلع القرن الفائت، وعلى خرائط جيوسياسية تضمن ليس فقط تفوقا مطلقا لإسرائيل على العرب، بل تغلغلا إسرائيليا في هياكل (وبنى) اقتصادات المنطقة، وتحكّما أكبر بعلاقاتها بجيرانها وبالعالم.
تدرك إسرائيل ومؤسساتها البحثية أن مركز الثقل في المنطقة العربية انتقل شرقا إلى المراكز المالية في الخليج، وتدرك مدى التردّي في السياستين الخارجيتين، المصرية والسعودية، اللتين لم تعودا قادرتين، ولا راغبتين، في لعب دور الطرف الوازن في علاقات هذا الخليج مع إيران والولايات المتحدة، ومن ثم استغلت السياسة الخارجية الإسرائيلية لحظة الانسحاب الأميركي من المنطقة، لتملأ فراغا محتملا في القوة، ولتسد تخوفات الإمارات، والبحرين تحديدا، من ابتلاع إيران لهما، اقتصاديا وعسكريا.
أكثر من ذلك، تدرك إسرائيل أن الإمارات لم تعد قوةً ضمن القوى الصغرى، بل تحاول أن تلعب دور قوى الصف الثاني في النظام الدولي، وهي تتمدّد، على النطاق الخارجي، في العديد من نقاط الصراع إقليميا ودوليا، سواء اقتصاديا أو عسكريا، عبر نشرها القواعد العسكرية، والمشاركة في عمليات عسكرية في مناطق طالما كانت بعيدة عن نفوذ الخليج، أو حتى عبر أدوات القوى الناعمة، ويصل بها الأمر إلى حد تحريك نظم سياسية في دولٍ أكبر نسبيا، كالسعودية ومصر، عبر فوائضها المالية، وسيطرتها على عديد من وسائل الإعلام والصحف والمواقع في المنطقة، وبالتالي قدرتها على تشكيل جزء مهم من الرأي العام العربي، وإيجاد موالين أو أعداء للنظم الحليفة وقت الحاجة. بل وتتحكم أبوظبي، بشكل فج، في السياسات الخارجية لنظم ودول أكبر في المنطقة، فهي تدفع أموالاً لشركات إسرائيلية لتحسين صور كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك والجنرال الليبي خليفة حفتر في الولايات المتحدة والدوائر الغربية. وتساعد هذه الأنظمة والأطراف الموالية في القضاء على أية محاولة للتغيير، تضمن حضورا للشعوب في صنع السياسات في المنطقة. ولا تكتفي بهذا، بل تتدخل أيضا بشكل مباشر في صفقات بيع السلاح وتوريده إلى هذه الأنظمة، سواء عبر الدفع المباشر لصفقات مصرية أو التحايل على حظر السلاح المفروض على ليبيا أو عبر مساومة السودان على موانئه الاستراتيجية، كميناء بورسودان، واقتياده نحو التطبيع مقابل المساعدة في حذفه من قوائم الدول الراعية للإرهاب، والاستحواذ على أراضيه بدعاوى دعم تدفق الاستثمارات الأجنبية.
تدرك إسرائيل ومؤسساتها البحثية أن مركز الثقل في المنطقة العربية انتقل شرقا إلى المراكز المالية في الخليج
وبالنسبة لإسرائيل، لم تبد العلاقات الدافئة مع مصر مطمئنةً لها، فهي لا تثق كثيرا في قدرة النظام على البقاء، أو حتى استمرار إجباره الشعب على القبول بصفقة القرن وتفاصيلها. وتدرك مراكزها البحثية ومراكز صنع القرار فيها أنها ما لم تغير الموازين على الأرض، وتحقق المشاريع التي يظنها بعضهم مستحيلة، لن تتمكّن من إجباره على أمر واقع جديد، يصبح فيه قابلا أن تكون الإمارات منسقةً لعلاقاته بالولايات المتحدة وإسرائيل، بعد أن ظلّت مصر تلعب هذا الدور بين معظم الدول العربية وإسرائيل والولايات المتحدة عقودا.
وتدرك إسرائيل ايضا أن هذه الخطوات المتسارعة للتطبيع مع دول الخليج، شبه المتحكّمة في الاقتصادات العربية الأخرى بمعاملات القروض والاستثمارات وتحويلات العمالة، نقلة نوعية نحو تحقيق التطبيع الاقتصادي الذي لطالما ظل حبرا على ورق عدة عقود، ولطالما كان عائقا قويا أمام محاولات فك عزلة إسرائيل إقليميا، وتبعيتها الحتمية للغرب والولايات المتحدة بديلا عن جوارها. وفي هذا الإطار، أطلقت إسرائيل مخططا ماليا وإنشائيا متكاملا لبناء شبكة الطريق السريع الإقليمي، لتكون مركزا تجاريا وماليا واستثماريا تمر عبره تجارة المنطقة، برّا وبحرّا إلى أوروبا. وبينما نشرت الخارجية الإسرائيلية مخططاتٍ لبناء شبكة سكك حديدية، تربطها مع دول الخليج، وهي مخططات يجري تنفيذها فعليا بالتنسيق مع السلطات الأردنية والسعودية، اكتفى المسؤولون المصريون بوصفها بالحملة الدعائية، والتقليل من أهميتها وتأثيراتها على مصر وجدواها الاقتصادية، فيما تقوم إسرائيل على إحياء بقايا خطوط سكك حديد الحجاز، ولكن لصالحها هذه المرة، على حساب العرب والأتراك معا.
تدرك إسرائيل أن الإمارات لم تعد قوةً ضمن القوى الصغرى، بل تحاول أن تلعب دور قوى الصف الثاني في النظام الدولي
ومن ناحية أخرى، تدرك الإمارات أن قيادتها المنطقة لن تتم إلا على أشلاء الدور المصري، وتحويله إلى دور وظيفي في خدمة مشروعها للمنطقة، وهو مشروعٌ يفترض أن يقوم على منطقةٍ خاليةٍ من حركات التغيير الاقتصادي والاجتماعي، ومن حركات الإسلام السياسي، وأية حركة مقاومة سواء للمشروع الإسرائيلي، أو لخضوع الأنظمة العربية لهذا المشروع، منطقة ترى في إسرائيل دولة جوار، وتدخل معها في تحالفٍ إبراهيمي على جثة أبناء إبراهيم أنفسهم. كما تدرك الإمارات أنه لا بد لها من إزاحة السعودية من طريقها لقيادة المنطقة. وفي أحسن الأحوال، هي تريد استتباعها كما حدث في الملفات الثلاثة، اليمني والليبي والسوري، ويحدث أيضا في ملف الصراع العربي الإسرائيلي الذي لطالما كانت السعودية فاعلا فيه، سواء عبر المبادرة العربية للسلام أو عبر الدعاية لإسلامية القضية الفلسطينية. ولكن هذه السياسة قد تجرّ المنطقة إلى أزماتٍ أخطر وسباق تسلح أكبر بكثير من الموجود، فاستنفار التحالف الإماراتي الإسرائيلي القوتين الإقليميتين، صاحبتي النفوذ الأوسع، اقتصاديا وعسكريا، في المنطقة، إيران وتركيا، قد يؤدّي لا إلى توازن قوة، ولكن إلى مزيد من عسكرة الصراعات، فإسرائيل تتوسّع في اغتيالات العلماء النوويين الإيرانيين. كما تتوعد إيران، بشكل أكثر حدّة، النظامين في أبوظبي والمنامة، بردود أقوى على استدعائهما إسرائيل إلى مواجهةٍ مباشرةٍ في ساحة جديدة مع إيران، كما أن تركيا توسّع علاقاتها مع دول المغرب العربي، وتحكّمها بمصادر المياه والتجارة والاقتصاد لدول جوارها المباشر العراق وسورية، وتطلق خطط تطوير عسكرية طموحة، سواء في آسيا الوسطى أو البحر المتوسط.
لم تبد العلاقات الدافئة مع مصر مطمئنةً لإسرائيل، فهي لا تثق كثيرا في قدرة النظام على البقاء
لا تدرك القوى الصغرى في منطقة الخليج، كالإمارات والبحرين، أبعاد جلب النار الإسرائيلية بجوار الزيت الإيراني أو التركي، ولا تحكيمها إسرائيل أكثر في مقدّرات المنطقة وطرق نقل منتوجها الأساسي، النفط والغاز. وفي جانب آخر، لا تزال هذه القوى تتبع صراعا قويا، قد يقود إلى هاوياتٍ جديدة، مع المحور التركي القطري وقوى الإسلام السياسي المتجذّرة في المنطقة على أكثر من ساحة، وفي أكثر من صراع مفتوح، يعرقل عمليات التحول الديمقراطي، ويؤخّر التنمية، ويدعم بروز تياراتٍ أكثر تطرّفا وكفرا بالديمقراطية والأدوات السلمية لتداول السلطة، وقد ينتج تياراتٍ أسوأ بكثير من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المستقبل.