الترويع سياسةً وإنجازاً

25 فبراير 2019
+ الخط -
ليس الغرضُ من تأييد محكمةٍ عسكريةٍ في القاهرة، الأسبوع الماضي، حكما على الناشر المصري، خالد لطفي، السجن خمسة أعوام، معاقبةَ هذا المثقف الذي يُعرَّف بأنه مؤسس مكتبة ودار نشر "تنمية"، وإنما تعزيز ثقافة الترويع في مصر، وتكريس مفهومٍ للسلطة ينهض على حسبانِك ألف حسابٍ بشأنها، في أي أمرٍ وقضيةٍ ومسألة. مقادير الاستفزاز العجيبة في هذا الحكم، البالغ الشذوذ، باهظةٌ على أي دماغٍ يريد تقليبَه على أي وجه، لأن خالد لطفي نشر طبعةً لكتابٍ مترجمٍ لمؤلف إسرائيلي، منشورٍ في بيروت، نشرت صحفٌ قاهريةٌ فصولا منه، وجرى توزيعُه في البلاد، ومتوفّرٌ على شبكة الإنترنت، ومضامينُه ذائعة، إذ يرمي أشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر، بالتجسّس لإسرائيل، وبإفادتها بأسرارٍ للدولة المصرية قبيْل حرب 1973، لتصبح تهمة خالد لطفي "بث شائعات" و"إفشاء أسرار عسكرية". ومؤكّدٌ أن السلطة الحاكمة في مصر تعرف مقادير الرثاثة في التّهمتين، وتعرف أن الكتابَ ميسورةٌ قراءتُه لأي تلميذٍ في أيّ من أرياف مصر وحواضرها وبواديها ونجوعها بكبسة زر. ولأنها تعرف ذلك، كما نحن خصومُها، فإن الغرض من حبس خالد لطفي هو ذاتُه الغرض من إيداع رئيس أركانٍ سابقٍ للجيش، ونائبٍ سابق لرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، اسمُه سامي عنان (71 عاما)، السجن (والتحفظ على أمواله) بعدة تهم، إحداها "التزوير بمحرّرات رسمية". كما هو الغرض نفسُه من خطف أحمد شفيق من أبوظبي، وتخويفِه من حماقة إقدامه على ترشيح نفسه للرئاسة. وهو الغرض من حبس هشام جنينة وعبد المنعم أبو الفتوح وغيرهما، ممن اقتصرت ذنوبُهم على بضع كلماتٍ قالوها لتلفزات ومواقع إلكترونية. 
ممنوعٌ أن تتضامن مع خالد لطفي، وإلا عليك أن تتحمّل تبعات فعلتك الفدائية هذه، فالرجل قضت بسجنه محكمةٌ عسكرية، وتهمتُه متعلقةٌ بإفشاء أسرار عسكرية. وممنوعٌ أن تتجاوز خطوطا مرسومة، فمن أنت حتى تكترث بك السلطة البوليسية الحاكمة، وهي التي لم تكترث برجلٍ في وزن سامي عنان ومكانته. وفي شأن الشّبان التسعة الذين تم إعدامهم، فجر الأربعاء الماضي، عليك أن تعرف أن آخرين سيلحقون بهم، إعداما أيضا. على كل مصريٍّ أن يعرف أن يد الدولة طويلة، وأن جريمة قتل النائب العام هشام بركات، بتفجير سيارته، استوجب إعدام 13 إخوانيا، في عملية تصفيةٍ لا يجوز لك أن تعرف شيئا عن تفاصيلها، وكذا اتهام 67 شخصا، حُكم على 38 منهم بالسجن مددا مختلفة. وإذا أرادت منظمات حقوق الإنسان في العالم أن تقول ما تقول في كل هذه العدالة، فلتفعل، فليس على الكلام جمرُك. وإذا استفظع الناس قولَ أحد الذين أعدموا للقاضي إن الكهرباء التي تم تعذيبهم بها تكفي مصر عشرين عاما فلهم ذلك، لكن إنسانيّتهم لن توقف مسار العدالة الناشط في مصر، والذي ستعزّزه تعديلاتٌ في الدستور، ستتم قريبا بموجبها حيازة الرئيس، المؤبّدة ولايته، سلطةً على القضاة.
الحكم على ناشر كتبٍ خمس سنوات سجنا، طبع كتابا منشورا، موصولٌ حتما بحالة الازدراء التي تحترفها السلطة البوليسية الحاكمة في مصر تجاه أي اعتراضٍ من أي لون، وتجاه ما تشغل به نفسَها منظمات رصد انتهاكات حقوق الإنسان. تماما كما أن الهمّة البادية في تنفيذ أحكام الإعدام، والتصفيات خارج القانون، موصولةٌ بالضرورة بحالة الخُيلاء التي يرفُل بها نظام عبد الفتاح السيسي، عندما لا تُخاصمه إيطاليا بعد قتل جوليو ريجيني، وعندما يقول رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، كلاما ساكتا (بالتعبير السوداني) عن حقوق المدوّنين في مصر، وعندما يظلّله دونالد ترامب بمنزلةٍ عالية من الرضى، وعندما تُسهب المؤسسة الأمنية في إسرائيل في التشديد على وجوب بقائه. وهذا كله وغيره هو ما يعود إليه هذا التعامل ببالغ العادية مع وفاة 823 معتقلا في السجون المصرية منذ الانقلاب في يوليو/ تموز 2013، بالإهمال الطبي والتعذيب وغيرهما، ومع قول "هيومان رايتس.."، أخيرا، إن السلطات المصرية تُمعن في قتل المعارضين والمعتقلين، في احتجازهم في ظروفٍ غير إنسانية، ومنع الدواء عن المرضى منهم..
إذن، كان انقلابا بوليسيا، ولم يكن انقلابا عسكريا محضا، ما جرى في مصر قبيل المقتلة إياها في ميداني رابعة العدوية والنهضة، سيما وأن الترويعَ منجزُه الأوضح تاليا، وسياستُه المعلنة بلا حياء.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.