التدمير بلا عنف ..
واجهت ألمانيا الشرقية، في سبعينيات القرن الماضي، إشكالية استبدادية من نوع خاص. كان نظامها لا يمكنه التوسّع في أساليب القمع العنيف من اعتقال وتعذيب وقتل، كما هو الحال في دول أخرى في الكتلة الشرقية، وذلك لأسباب سياسية وجغرافية عدة، في مقدمتها الوضع الخاص لكونها النصف الثاني لألمانيا الغربية الحليفة للولايات المتحدة، ما جعلها مركزا للتغطيات الإعلامية الغربية، وكذلك للضغوط السياسية. قبل بناء سور برلين، هاجر نحو 3.5 ملايين ألماني شرقي إلى الشطر الغربي من ألمانيا.
وجد جهاز الأمن السياسي الألماني (شتازي) حلاً هو التدمير النفسي للمعارضين، والذي تم اختصاره في كلمةٍ تترجم إلى التفكك أو التحلل. سيتم تدمير حياة المعارضين، ودفعهم ذاتياً إلى الانشغال بمشكلات شخصية، أو الإحباط إلى حد الانتحار، من دون أن يظهر أي دور للحكومة في ذلك.
استعرض تحقيق نشرته "دويتش فيلله" في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، متزامنا مع الذكرى الثلاثين لسقوط سور برلين، هذه الاستراتيجية، والتي صدرت للمرة الأولى في دليل تعليمات داخلي عام 1976. .. تشمل وسائلها التشويه الممنهج للسمعة، استغلال الإخفاقات الشخصية والمهنية للشخص المستهدف، إيجاد حالة من عدم الثقة والشك داخل التنظيمات والمجموعات، تفجير التنظيمات من الداخل بإشعال الخلافات بين الأفراد وهز ثقة الكل في الكل.
من بين وثائق جهاز "ستازي" التي تم نشرها بعد سقوطه وثيقة توضح طريقة استهداف منظمة "مجموعة السلام في بانكو"، التي أسسها معارضون في ألمانيا الشرقية. .. كانت للمجموعة خلفية دينية كنسية، فاختار الجهاز تدميرها داخلياً عبر زرع عملاء تظاهروا بالتديّن، ونشروا أجواء الشكوك بشأن الخيانات الجنسية بين أعضاء بارزين وزوجاتهم. وهكذا يتم كسر الثقة السياسية والشخصية بينهم، ما يؤدّي إلى شل عملهم السياسي وانشغالهم بعضهم ببعض.
ضحية آخر هو هوبيرتوس كنابة، قال إن الجهاز أمكنه منعه من النشاط السياسي، بعد تعرّضه لسلسلة أحداث مجهولة الفاعل، منها تغيير أماكن أشياء بسيطة داخل منزله، بينما وصل رفاقٌ آخرون إلى الجنون والانتحار.
يمكن استحضار خطة "التحلل" التي دبّرها جهاز "شتازي" اليوم لفهم ظواهر عديدة، منها الجدل الدائر بشأن لطف الاحتلال الإسرائيلي، مقارنة بالاستبداد العربي.
حين أشار شاب فلسطيني مقدسي أمام الكاميرات بإشارة بذيئة لشرطي إسرائيلي فلم يحرّك ساكنا، أو حين تم إطلاق سراح منى الكرد وشقيقها محمد الكرد خلال ساعات فقط من اعتقالهما، فإن المواطن العربي يستحضر مصائر من قد يمارس أي فعلٍ مشابه في بلاده. لكن ما يفوت هنا الفرق في الأوضاع بين دولة حديثة، هي في النهاية غربية في الشرق الأوسط، ودول تعيش علاقات ما قبل الحداثة، حيث قيم القبيلة، والحاكم الإله، وغيرها من مسببات هزائم العرب.
وبقدر ما تفرض حداثة إسرائيل عليها قيودا معينة، كما تجعلها أكثر تجاوبا مع الضغوط الإعلامية والسياسية العالمية، فإن هذه الحداثة نفسها تمنحها إمكاناتٍ وخيارات أوسع من الهيمنة والسيطرة، وعدم الحاجة لوسائل القمع العنيف في غير موضعها، مع استخدامها بكثافة في مواضع أخرى، بل وبأساليب استعراضية، كما بتدمير أبراج غزّة في الحرب أخيرا.
على صعيد آخر، تستخدم الأنظمة العربية بعض وسائل "التحلل"، ولا تعتمد على العنف فقط، كما قد يظن بعضهم، وقد يكون ذلك بتراث مؤسّسي يرجع إلى عهد التعاون مع جهاز "شتازي" لدى الأنظمة القومية حليفة الاتحاد السوفييتي، أو لعله توارد خواطر استبدادية!
شهدنا في مصر تاريخاً من تفجير الأحزاب المعارضة داخليا، كما شهدنا أخيرا في المغرب موجة من القضايا الجنسية الجنائية تستهدف صحافيين معارضين. وعلى الرغم من أن وثائق "شتازي" تمثل منجما غير مسبوق لدراسة وفهم أساليب عمل هذه الأجهزة، إلا أنها، بعد كل هذه الأعوام منذ 1991، ما زالت بعيدة عن استيفاء ما تستحقه من دراسة المختصين العرب.
أول خطوات مقاومة "التحلل" إدراك وجوده.