التحرّر من "القائد ألفا"

17 ابريل 2021

فيدل كاسترو يحضر احتفال عيد العمال في هافانا (1/5/1998/ Getty)

+ الخط -

عشية بدء أعمال مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي، أمس الجمعة، تطرّقت وكالات الأنباء إلى الحدث، الذي عدا كونه سيُنهي مسيرة طويلة من حكم آل كاسترو في البلاد والحزب، إلا أنه أضاء على نقطة بالغة الأهمية. أجرت وكالة فرانس برس تحقيقاً تحدثت فيه مع ريغوبيرتو سيلوريو، وهو مزارع انضمّ إلى الثوار بقيادة فيدل كاسترو. لم يتحدّث سيلوريو عن "إيمانه بالقضية"، ولا عن "كيفية فهم الثورة في الممارسات اليومية"، ولا حتى عن "كيفية إدارة الحزب البلاد إدارياً وسياسياً". كل ما ذكره كان "ما يقلقني أن الحياة دائماً الرجال هم من يحدّدونها، وهنا لم يولد بعد فيدل آخر". كان الرجل واضحاً وبديهياً في حديثه عن فيدل كاسترو، وفي بساطته كثافة الاعتقاد بقدرة الرئيس الراحل على تطويع الأمور لصالحه، إيجابية أم سلبية. لم يكن فيدل كاسترو سوى نسخة كوبية عن "القائد ألفا"، الذي ينضمّ إليه الجميع في سبيل قضية ما. وإذا كان "ألفا" هو الزعيم الأول في عالم الذئاب مثلاً، وقادرٌ على جرّ القطيع إلى معارك في سبيل الحصول على القوت والمساحات، إلا أنه لدى الإنسان يكون القائد عادة هو "المتمتع برؤى استراتيجية وقيادية"، كما "يهابه الخصوم والأعداء"، ناقلاً "مجتمعه من حالٍ إلى حال". هنا، تبدو الأيدولوجيات أمراً ثانوياً أحياناً، لأن طبيعة المجتمعات مختلفة بين بلاد وأخرى، لا لأسبابٍ تمييزية، بل لأسبابٍ ناجمةٍ عن الجيوبوليتيك أولاً. وهو ما تجلّى أيضاً في كوبا، فسيلوريو، الذي كان في العاشرة من عمره حين انتصرت ثورة فيدل كاسترو وتشي غيفارا على فولخنسيو باتيستا عام 1959، يعيش في شقة صغيرة في العاصمة هافانا، مع أقرباء له، مشكّلاً الدليل الناصع على الولاء للقائد القوي لا للأيديولوجيا، بقوله "لم أفهم أبداً ما هي الاشتراكية، ولم تكن تثير اهتمامي، لكنه قال (فيدل كاسترو) اشتراكية وهكذا كانت".

قال كاسترو ذلك فحصل. انتهى الموضوع. لا يتعلق الأمر بالحق أو عكسه، بل بمدى سيطرة "القائد ألفا" على الجمهور. وهو أمر تقليدي في التاريخ السوسيولوجي للبشرية، اعتماداً على منطق القبيلة في الحقبات الأولى للبشرية، قبل تطوّرها إلى نظم وقوانين تعزّز الفوارق الطبقية الناجمة عن هرمية السلطة بدءاً من "ألفا". لكن جماد هذه القوانين وإجحافها وعدم مرونتها أفسح المجال لقيام انتفاضاتٍ وثورات، سياسية ودينية، تحوّل بعض منها إلى نسخة أخرى من النظام السلطوي، مكرّساً منطق "القائد ألفا"، لكن بعضاً غير قليل تحوّل إلى ترسيخ قوة القانون على حساب "ألفا"، ففي بلدانٍ كثيرة، سواء في اسكندنافيا وحتى الولايات المتحدة، لا يمكن لـ"القائد ألفا"، المُنتخب بموجب الشعب والحاكم بقوة الدستور، أن يُمعن في ظلمه وإلا يُطاح. مع العلم أن بعض "قادة ألفا" نجحوا في نقل مجتمعهم من مكان إلى آخر، فقط لاعتمادهم على تنظيم القوانين، لا عبادة الأشخاص.

التمسّك بـ"القائد ألفا" في عالمنا نابع من أمرين: حاجة الشعوب إلى زعيم يقودها بسبب خشيتها من "مستقبل مجهول" يزيّنه لهم هذا القائد، في ظلّ إحجامه عن تطوير القوانين الناظمة للمجتمع، مكرّساً جزئية الخوف في قلوب مواطنيه. وحاجة دول الجوار أو العالم لمثل هذا القائد في بلد ما، لتمرير سياساتها واستثماراتها، وفقاً لحساباتها التي تتجاوز القوانين في بلادها، المتحرّرة من سطوة "القائد ألفا".

لا يُمكن تحرير أي مجتمع من هذه الازدواجية سوى بالسعي إلى نصر القوانين المرنة، التي تتبدّل وفقاً لحاجات المجتمع، لا إلى ترسيخ شعار "بالروح بالدم نفديك". هذه العبثية قاتلة. فـ"القائد ألفا" لم يعانِ قط في حياته من جوع وفقر ونقص في الطبابة والتعليم، عكس الباقي. وإذا كان الوضع "طبيعياً" في بداياتنا، بوصفنا بشراً، وفقاً لمنظومة التطور، إلا أنه بات غير طبيعي الآن، بل حالة مرضية تستوجب المعالجة.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".