البنتاغون يتحدث
تحرص إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، منذ اليوم الأول لتوليها الحكم، على إعطاء انطباع بأنها، عكس إدارة سلفها، تمتلك تصوّرا واضحا لسياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا أنها ضمت فريقا يعد الأكثر خبرة في شؤون المنطقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. إلا أنها لم تنجح كثيرا في ذلك. بناء عليه، تركت هذه الإدارة لمسؤولها العسكري الأرفع في منطقة الشرق الأوسط، قائد المنطقة الوسطى، الجنرال فرانك ماكنزي، مهمة شرح الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في منطقة عملياته، ويبدو أنه نجح في ذلك. العرض الذي قدمه ماكنزي في نحو 17 دقيقة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن يوم الاثنين الماضي (8 فبراير/ شباط) جاء الأشمل ربما بخصوص السياسة الأميركية في المنطقة، لكنه بَيَّنَ، من جهة أخرى، أن ليس هناك فروق جوهرية بين سياسات الإدارة المنصرفة والإدارة الجديدة بخصوص رؤيتهما للمصالح والتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة في المنطقة، على الرغم من اختلاف أدوات مقاربتها وطريقتها، لجهة تركيز الإدارة الحالية أكثر على الدبلوماسية والعمل مع الحلفاء والشركاء.
جذب كلام ماكنزي اهتماما كبيرا، نظرا إلى أهمية قائله، وموقعه في المؤسسة العسكرية الأميركية، فالرجل هو المسؤول الأول عن واحدةٍ من تسع قيادات مناطق عسكرية مشتركة في البنتاغون (وزارة الدفاع). وتكتسب تصريحاته قيمة إضافية، نظرا إلى أهمية المنطقة التي يشرف عليها، وهي تضم 19 دولة (إضافة إلى إسرائيل التي نقلها ترامب من القيادة الأوروبية الى القيادة الوسطى في أيام ولايته الأخيرة)، وتمتد من كازاخستان شمالا إلى اليمن جنوبا ومن أفغانستان شرقا إلى مصر غربا. تعد هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها نحو سبعة ملايين كم مربع تقريبا، وتضم 550 مليون نسمة، أهم منطقة عمليات أميركية، ليس فقط لأنها تعد الأكثر اضطرابا في العالم، بل لأن الولايات المتحدة ما زالت تخوض أطول حروبها وأكثرها تكلفة فيها (أفغانستان)، وتقود تحالفا دوليا ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق، وتنشط في مسارح عمليات إضافية من اليمن إلى الصومال، وتشتمل على أكبر وجود عسكري أميركي خارج الأراضي الأميركية. وفوق ذلك كله، تحتوي على 70% من نفط العالم و55% من ثروات الغاز فيه.
حدّد ماكنزي ثلاثة تحدّيات تواجه الولايات المتحدة في المنطقة: أولها التنافس مع القوى الكبرى التي تحاول أن تعزّز وجودها في المنطقة ومواجهة النفوذ الأميركي فيها، كما تفعل روسيا التي بات لها وجود عسكري شرق المتوسط لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، والصين التي تستخدم مشروع الحزام والطريق، والكوريدور الصيني - الباكستاني، غطاء لمشروع هيمنة جيوسياسي. التحدّي الثاني تمثله إيران التي هاجمها ماكنزي بشدة، وقال إنها تستخدم العراق ساحة معركة ضد الولايات المتحدة، وتنشر الفوضى في سورية واليمن، وأرجاء أخرى من المنطقة. والتحدّي الثالث يتمثل باستمرار مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية الذي ما زال قادرا على القيام بهجمات كبيرة في سورية والعراق، وجديدها هجمات بغداد أخيرا.
وعلى الرغم من أن ماكنزي أشار بوضوح إلى تناقص اعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة في المنطقة، بعد أن باتت أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، إلا أن ذلك، بحسبه، لن يقلل من أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة التي تعتمد مصالحها على استقرار الاقتصاد العالمي، والذي يعتمد بدوره على نفط الشرق الأوسط، وعلى إبقائه بعيدا عن سيطرة منافسيها الكبار، إذ لاحظ ماكنزي أن الصين تستورد 50% من احتياجاتها من الطاقة من منطقة الشرق الأوسط، فيما تسعى روسيا إلى زيادة نفوذها على منابع النفط وخطوط إمداده في المنطقة، باعتبار ذلك أحد مصادر القوة الروسية.
ونظرا إلى جغرافيا المنطقة، أشار ماكنزي إلى تصاعد أهمية حماية الممرّات المائية فيها (مضيق هرمز، مضيق باب المندب، وقناة السويس)، خصوصا في ضوء تصاعد التحدّي الإيراني وتنامي القوة البحرية للصين، ووجود قاعدتها العسكرية الوحيدة خارج البر الصيني في جيبوتي.
تفاصيل عديدة تناولها ماكنزي في عرضه، بما فيها وقف واشنطن دعمها الحرب في اليمن، مع تأكيد التزامها بأمن حلفائها، لكن اللافت قوله، على الرغم من تأكيده قدرة البنتاغون على مواجهة التحدّيات الكبيرة التي ذكرها، أنه كلما استخدم السياسيون الدبلوماسية أكثر، زاد ذلك من فرص نجاح العسكر في مواجهة التحدّيات.