البرهان والحلم بالسلطة بلا هدف
بينما تشتدّ في السودان المظاهرات المناوئة لنظام عمر البشير، في منتصف إبريل/ نيسان 2019، بدأت حركة غير معتادة داخل مقرّ قيادة الجيش السوداني. جمع الرئيس السابق اللجنة الأمنية لمناقشة فضّ الاعتصام المعارض. من نافذة مكتبه، رأى عبد الفتاح البرهان التحرّكات، فاستدعى مدير مكتبه ليسأله عما يجري. بعد أيام، سيؤدّي البرهان اليمين رئيساً للمجلس العسكري الحاكم، بعدما أطاح المجلس الرئيس البشير، ثم تنحّى عن قيادته وزير الدفاع عوض بن عوف، ونائبه الفريق كمال عبد المعروف، والفريق أمن صلاح عبد الله (قوش).
عقب إطاحة البشير، أعلن بن عوف تكوين مجلسٍ عسكريٍّ للحكم، يتكوّن من ستة أفراد من الجيش، واثنين من جهاز الأمن والمخابرات، ومثلهما من الشرطة، ومثلهما من قوات الدعم السريع. بعد تولي البرهان السلطة، تغيّرت تركيبة المجلس، وجاء بقائد الدعم السريع، صديقه القديم محمد حمدان دقلو ليكون نائباً له، ورقّاه إلى رتبة فريق أول. بعد أقل من شهرين من توليه السلطة، ذكر البرهان، في مقابلة تلفزيونية، أن والده "الذي يحسبه رجلاً صالحاً" أخبره بأنه "سيكون من الناس الذين يحكُمون السودان".
تبدو تلك أصدق رؤيةٍ سياسيةٍ للرجل الذي يحكم البلاد منذ 12 إبريل/ نيسان 2019، فالبرهان ليس لديه مشروع وطني، ولا حاضنة سياسية، ولا موقف أيديولوجي. لكنه مصمّم على ألا يترك السلطة. وهو في سبيل ذلك يتّخذ الموقف ونقيضه. يقول الشيء وعكسه.
تثير محاولة تتبع تصريحات عبد الفتاح البرهان في السنوات الأربع الماضية الارتباك. في فجر 4 يونيو/ حزيران 2019، بعد ساعات من فض اعتصام السودانيين المطالبين بتسليم السلطة للمدنيين، قال البرهان إن قوى الحرية والتغيير "تحاول" استنساخ نظام شمولي آخر يفرض فيه رأي واحد يفتقر للتوافق والتفويض الشعبي والرضا العام، ويضع وحدة السودان وأمنه في خطر حقيقي. وتنصّل من الاتفاق الذي جرى التوصل إليه معهم.
قبل انقضاء أقل من شهر، عاد البرهان ليصف قوى الحرية والتغيير بأنها قوى وطنية حريصة على مصلحة البلاد. وعقب توقيع الاتفاق معها، أحال الخلافات معها إلى "أشياء خارجة عن الإرادة كانت تؤدّي إلى خرق الاتفاق"، واتهم في 8 يوليو/ تموز 2019 "جهاتٍ لا تريد الخير للسودان عملت على عرقلة الاتفاق مع الحرية والتغيير". إنه عبد الفتاح البرهان، عدو "الحرية والتغيير" وحليفها. تقرّب منها في الشهور الأولى، إلى درجة أنه سلّم طوعاً ملفاً مخابراتياً عن بعض استثمارات جهاز الأمن وواجهاته لبعض الوزراء المدنيين للعمل على تصفيتها. وأعلن أكثر من مرة أن تنظيم الحركة الإسلامية يحاول تنفيذ انقلاب عسكري لإعادة النظام السابق. وبعد أقل من عامين، عندما اقترب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، عاد إلى تهديد "الحرية والتغيير" بتنسيقٍ مع حليفه قائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي). اتّهمهم بسرقة الثورة السودانية وإقصاء الآخرين، وأعلن أن الجيش لن يقوم بانقلاب مهما حدث. بعد أسبوع، اعتقل الجيش أعضاء مجلس السيادة المدنيين، ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك، وعدة وزراء وقادة "الحرية والتغيير". وأعاد لتنظيم الحركة الإسلامية كل ما صادرته منه الحكومة الانتقالية السابقة. بعد شهر من الانقلاب، أعاد البرهان رئيس الحكومة عبد الله حمدوك إلى السلطة. وبعدما أعلن، في 25 أكتوبر/ تشرين الثاني 2022، أن على "الحرية والتغيير" الاستعداد للانتخابات، وأنها لن ترجع إلى السلطة الانتقالية، هاجمها لأنها ترفض الجلوس للحوار معه، ما يزيد الأزمة الاقتصادية للبلاد!
بعد حرب 15 إبريل (2023)، اتّهم البرهان "الحرية والتغيير" بأنها حرّضت، بالتنسيق مع مبعوث الأمم المتحدة للسودان، نائبه وصديقه حميدتي على الانقلاب عليه. وتنكّر لكل مديحه السابق لحميدتي وقوات الدعم السريع بأنهم أصحاب فضل في "التغيير"، وأن دورهم في حماية البلاد لا يُنكره إلا مكابر. بعد الحرب أصبحت قوات الدعم السريع "مليشيا"، وأصبح وجودها مهدّد لأمن البلاد. من الصعب أن تجد موقفاً ثابتاً للرجل فهو يهاجم الحركة الإسلامية، ويتحالف معها. يمدح "الحرية والتغيير"، وينقلب عليها. يسبح في بحرٍ من التناقضات، لا يُمسك بها إلا حلم والده الصالح. وهو، في سبيل إيمانه بهذا الحلم، مستعدُّ للذهاب إلى أبعد نقطة، حتى لو كانت تل أبيب، التي وقّع معها اتفاقاً على تطبيع العلاقات.