البرلمان التونسي إلى أين؟
تستجدّ الأسئلة بشأن مجلس نواب الشعب في تونس ومستقبله، في ضوء ما يجري تحت قبته من توترات ومناكفات وتبادل العنفين، اللفظي والجسدي، فقد كشف نقاش قانون المالية للحكومة (2021) داخل البرلمان عن أزمة سياسية حادّة أمام النزوع التصعيدي لبعض الكتل البرلمانية، في مقدمتها كتلة ائتلاف الكرامة، على أن ما كان يحسب واحدا من مكاسب الثورة في تونس، مجسّما في السلطة التشريعية، قد أصبح في لحظة ما مؤسسةً توصف من الرأي العام ووسائل الإعلام وشرائح شعبية متعددة بأنها برلمان "الصعاليك" و"المارقين" و"البرلمان الوهابي" و"برلمان الدن". مؤسسة أصبحت عند التونسيين رمزا للتعدّي الصارخ على قيم الحرية وآداب الحوار وثقافة التعايش. تنشر خطاب الكراهية والإقصاء والتطاول على مؤسسات الدولة والمجتمع.
فوجئ التونسيون وهم يتابعون النقاشات البرلمانية عن ميزانية وزارة المرأة للسنة الجديدة التي تنقلها القناة الثانية للتلفزة التونسية بالنائب محمد العفاس عن كتلة ائتلاف الكرامة، ينزلق إلى خطاب فاق كل التوقعات، وصف المرأة التونسية بأبشع الأوصاف، متهكما على مجلة الأحوال الشخصية (1956) التي عزّزت حقوق المرأة التونسية الدستورية والاجتماعية، ومنعت تعدّد الزوجات وربطت الطلاق بحكم قضائي، داعيا إلى تطبيق الشريعة، فيما اعتبر خرقا واضحا للدستور ولمدنية الدولة ولكل القوانين المنظمة للحياة العامة في البلاد. وكشف خطاب النائب عن وجود تكتل داخل البرلمان يبطن عداءً للنساء، قد يترجم لاحقا في مبادرة تشريعية لتعديل مكتسبات المرأة وإلغاء النصوص التشريعية المناصرة لها، مثل الحماية الاجتماعية للأم العزباء وحق التعليم والحق في العمل.
كشف خطاب نائب عن تكتل داخل البرلمان يبطن عداءً للنساء، قد يترجم لاحقا في مبادرة تشريعية لتعديل مكتسبات المرأة وإلغاء النصوص التشريعية المناصرة لها
أعاد تدخل العفاس التونسيين إلى المربع الأول للثورة، حين فوجئوا، بعد أيام من مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي البلاد إلى منفاه في السعودية، بخروج مجموعات بلباس غريب (أزياء أفغانية) للتظاهر والاحتجاج ضد مكتسبات المرأة باعتبارها رمز المشروع الحداثي للمجتمع التونسي. وقد اتجه انزلاق نائب كتلة ائتلاف الكرامة فورا نحو العنف الجسدي، ليتم الاعتداء على النائبتين، سامية عبو وأمل السعيدي (الكتلة الديمقراطية)، إثر محاولتهما فض الاشتباك بالأيدي بين نواب ائتلاف الكرامة وزميلهما من الكتلة الديمقراطية، أنور الشاهد، الذي ظهر بعد حادثة الاعتداء على شاشات التلفزيون والدماء تكسو جبينه. وقرّر مجلس النواب تشكيل لجنة تحقيق في الاعتداءات بالعنف الجسدي، فيما أعلنت كتل برلمانية أخرى تتبع المعتدين قضائيا.
يتساءل التونسيون اليوم: ماذا ينتظر الرئيس قيس سعيد للخروج من "التهديدات الهلامية" والخطابات الجوفاء إلى اتخاذ ما يلزم من التدابير لإنقاذ البلاد من الأيادي الساعية إلى تدميرها؟
أصبح المشهد في البرلمان صادما ومرعبا ومخيفا، سال فيه الدم وسقطت القيم وعمّت الفوضى، أطاح صورة مجلس الشعب في نظر عامة شرائح الشعب التونسي ورذلها. ودان الاتحاد الوطني للمرأة التونسية بشدة الخطاب المعادي للمرأة وحقوقها تحت قبة البرلمان، وقرّر مقاضاة نائب ائتلاف الكرامة، وقد انضمت إلى الاتحاد نائبات من المجلس التأسيسي السابق وعدة فعاليات في البلاد. وقالت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، راضية الجربي "لا أتصور أن هناك حرية وديمقراطية والمرأة التونسية تتعرض إلى الإهانة من نائب شعب ..".
تنامي العنف داخل قبة البرلمان، متخذا أساليب شتى، وصولا إلى إسالة الدم، اعتبر تطبيعا للبرلمان مع ثقافة العنف. والأسوأ خروج خطاب العنف والكراهية إلى الفضاء العام ووسائل الاتصال الاجتماعية ووسائل الإعلام، ليرى متابعون أن تدخلات رئيس الجمهورية، قيس سعيد، ستعير جزءا من القاموس الحربي في بعضها، وتكثر من الوعيد والتهديد لـ"أطرافٍ" و"مجرمين" و"فاسدين" سوف يكشف عنهم في اللحظة المناسبة، كما أن احتجاجات واعتصامات لا تخلو هي بدورها من عنف لفظي، وأحيانا مادي، كما أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي تطفح بعبارات الشتم والتخوين والقذف التي يعمد إليها قياديون في الأحزاب السياسية المتشاجرة في مشهد بائس.
تنامي العنف داخل قبة البرلمان، متخذاً أساليب شتى، وصولاً إلى إسالة الدم، اعتبر تطبيعاً للبرلمان مع ثقافة العنف
يتساءل التونسيون اليوم: ماذا ينتظر الرئيس قيس سعيد للخروج من "التهديدات الهلامية" والخطابات الجوفاء إلى اتخاذ ما يلزم من التدابير لإنقاذ البلاد من الأيادي الساعية إلى تدميرها.. لقد انزلقت المؤسسة التشريعية نحو العنف، وتعددت التنسيقيات المحتجة ساعية إلى الحلول محل الدولة. والمزاج الشعبي اليوم يذهب إلى أن يحل الرئيس البرلمان، تفعيلا للفصل 80 من الدستور وإعلان حالة الاستثناء. "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية ...". ويشدد خبراء قانونيون على أن للرئيس وحده سلطة تقدير توفر شروط الحالة الاستثنائية من خطر داهم وتهديد لأمن البلاد وتعطيل للسير العادي لدواليب الدولة وإعلان حالة الاستثناء تبعا لذلك 30 يوما. وأعاد مختصون آخرون إدارة الأزمة إلى رئيس البرلمان، بناء على مقتضيات الفصل 48 من القانون الداخلي للمجلس الذي مكّنه من المسألة الضبطية المتصلة بحفظ النظام داخل البرلمان وفي محيطه.
يؤكّد المشهد عامة وجود أزمة حادة في النظام السياسي التونسي، جوهرها النظام الانتخابي الذي أفرز برلمانا مشظيا، يراكم أزمات البلاد التي تجابه تحدّيات معقدة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وكان يفترض أن يكون طوقا لنجاة التونسيين مما حاق بهم من ديمقراطية معتلة، وانتقال ديمقراطي معطل في سياقات أزمة تلد أخرى، مع اقتراب الذكرى العاشرة للثورة التي أصبح أغلبهم يعاني من نوستالجيا سنوات من قبلها.