البحث عن الهوية المقدسية
يجري تعريف المواطن في إندونيسيا باسمه الأول فقط، وليس باسم عائلته أو عشيرته أو قبيلته، وذلك لأنّ إندونيسيا أكبر دولة إسلامية فيها أكثر من 150 فئة عرقية، وديانات مختلفة، يعيشون على أكثر من سبعة آلاف جزيرة. ويأتي هذا من الدولة الإندونيسية من أجل تعزيز الانتماء الوطني، وليس من أجل الانتماء العشائري أو القبلي والعائلي أو الديني. ولهذا، كلّ إندونيسي مواطن فعّال، يعمل من أجل الدولة ووحدتها.
في نقاش هادئ، لتشخيص معضلة القدس، أثارت مجموعة من المقدسيين الحريصين على مستقبل المدينة، المتنافسين على حبها، تساؤلات عن هوية القدس: هل هناك هوية تجمع كلّ المواطنين فيها كما كان الحال في الماضي؟ أو كباقي المدن التي لها هويتها وروحها الخاصة؟ فإسطنبول، على سبيل المثال، التي يكون فيها المرء مجهولاً، لا يعرفك أحدٌ في شوارعها، حتى لو كنت ابن عائلة ذات إرث وتاريخ ساهم في تاريخها وعمارتها وثقافتها. ويساهم هذا الوضع في الديمومة، إذ يساهم كلّ فرد بطريقته، من أجل رفعة المدينة بعد الانصهار في هويتها الجمعية، يخدمها ويصبح جزءاً منها كأثر تراكمي، لا تغنياً بماضي صورته الوردية، ولا تعدو كونها اسمية، لا تعكس بالعادة طبيعة الواقع والمساهمة في إرث المدينة وحضارتها وحاضرها.
ما زلت أذكر سنوات السبعينيات في القدس، حيث كان الوعي الإدراكي قد بدأ يتشكّل عندي، فلقد كانت إحدى الغرف في منزلنا تقطنه عائلة تركية، فضلت البقاء في القدس والعيش والموت فيها، والمنزل الآخر للعائلة، كانت تقطنه عائلة قادمة من إحدى قرى الخليل جنوبي الضفة الغربية، والمنزل الثالث كانت تقطنه عائلة قادمة من إحدى قرى رام الله. لا أذكر أنّ جدّتي، صاحبة تلك المنازل، كانت تتصرّف مع أيّ من هؤلاء الجيران حسب أصولهم، بل تعاملت معهم جميعها بوصفهم مقدسيين. هكذا علمتنا، فلقد انصهر الجميع في هوية القدس، وخدموا المدينة بطريقتهم، وكانوا مخلصين.
اختفت هوية القدس الشاملة، لتحل محلها هويات مزّقت المدينة
هكذا كانت المدينة فسيفساء من قطع صغيرة من مجتمعاتٍ مختلفة، محلية وعربية وإسلامية ومسيحية، فضلت السكن في القدس، كلٌّ لأسبابه الخاصة. وفي النهاية، شكلوا جميعهم هوية المدينة، الهوية التي تدهورت كلياً بسبب الاحتلال أولاً، والجهل ثانياً، والعصبية القبلية والعشائرية التي لم تكن في أي يوم جزءاً من هوية مدينة القدس. ولعلّ الاحتلال أكثر من ساهم بتدمير هوية المدينة، وجعل السكان أقليات متناحرة، فقد فهم الاحتلال، منذ البداية، أنّ الإبقاء على هوية القدس كما كانت عبر عقود لن يكون لمصلحته. ولهذا قام بخطوات كبيرة من خلال تهميش قلب المدينة، وتفضيل جماعات وفق التركيبة الجغرافية والعشائرية على حساب الهوية الجامعة للمدينة، فأصبح من يسكن في القرى التي ضمتها إسرائيل، بضمها القدس بغرض السيطرة على أراضيها، غريباً، على الرغم من أنّه من القدس.
وهكذا اختفت هوية القدس الشاملة، لتحل محلها هويات مزّقت المدينة، فهذه القرية يمكنها مواجهة تلك القرية، وهذه العائلة تستطيع حشد مئات من أفرادها في أيّ معركة حامية الوطيس مع العائلات الأخرى، لخلاف على موقف سيارة أو متر أرض أو عقار، وباتت القدس منتهية.
ما علينا كثير، في محاولة لفهم المعايير التي يجب أن تكون، لتعود القدس إلى هويتها الجامعة، وأن ينصهر فيها جميع سكانها، ليشكلوا القدس الشاملة الجميلة الواحدة الموحدة، ويكون هناك تنوع وانفتاح، ذلك أنه عندما يكون هناك تقوقع وانكماش عصبية قبلية يكون هناك تخلف وتراجع.