البثّ الميّت

15 اغسطس 2021

(حسين كاظمي)

+ الخط -

لم آخذ ظاهرة ما تسمّى "معارضات الخارج" الأردنية على محمل الجد يومًا، سيما بعد أن استمعت إلى بعضها. ولذا لم تشكّل عودة أحد أهم رموزها إلى عمّان، أخيرا، أيّ صدمة بالنسبة لي، وأعني به نايف الطورة، الذي اعتاد أن يظهر في منصّات البث الحيّ، ويبدي معارضة شرسة للأسرة الحاكمة.
ولربما صُدم عدد غير يسير من متابعي الطورة، عندما رأوه يدخل مطار الملكة علياء، ويجتاز غرف التفتيش والتدقيق على أسماء القادمين، من دون أن يتم اعتقاله أو توقيفه، بل تُرك ليمرّ بسلام، ويعود إلى مسقط رأسه. ثمّ تفاقمت الصدمة عندما رأوه في بثّ حيّ جديد ليبرهن لهم فيه أنه "بخير"، مع كثير من الإشادة بالملك الذي كان يهجوه بالأمس، وبالنظام وأجهزته، بما فيها دائرة الاستخبارات نفسها التي كان يُشبعها تقريعًا في أميركا حيث يقيم، لقاء حسن المعاملة والتسامح اللذين لمسهما منذ عودته.
تعدّدت التكهنات كثيرا بشأن عودة الطورة وبثّه "الميّت" الجديد، الذي بدا فيه غير مقنع، فمنهم من رجّح أنها عودة "مدفوعة الثمن" لقاء صمته، ومنهم من رجّح تقليده منصبًا ما عمّا قريب، فيما أشاد آخرون بعودة "الابن الضال" إلى رشده (قبل بلده)، وبأنه لا يصحّ في النهاية غير "الصحيح"، فقد أدرك الطورة أنه أخطأ في حقّ النظام الذي لا يجوز الخروج عليه، ورجع نادمًا مغفور الذنب. بينما ذهب آخرون إلى أن الطورة أدّى "دورًا مرسومًا" بلغ نهايته، وإلا لما حظي بهذا الدلال والغفران، لأن أناسًا آخرين اعتقلوا وسجنوا سنواتٍ بـ"ذنوب" أقلّ بكثير من "ذنوب" الطورة، ولم تشفع لهم شهرتهم التي فاقت شهرة الطورة، من العقاب، على غرار ليث شبيلات الذي ضيّق عليه الخناق، فآثر الاعتزال والابتعاد عن العمل السياسي.
تبقى تلك تكهنات شعبية، تحتمل الصواب والخطأ، غير أن أحدًا لم يقل إن ثمن العودة ليس المقصود به الطورة بعينه، بل لسحب البساط من تحت هذه الظاهرة برمتها، وأعني بها "معارضات الخارج"، عبر ضربها بأهم رموزها، وتفريغها من مضمونها، وتقويض صورتها أمام المعجبين بها ممن أدمنوا على متابعتها، وأخذ ما يصدر منها على محمل الجدّ، وهم يمثلون فئةً غير قليلة من الشعب، سيما وأن الظاهرة بدأت تشكّل مصدر قلق فعليّ للنظام.
أما الأمر الآخر، فيتعلق بنهج النظام نفسه في تعامله مع المعارضة، القائم على الاحتواء والتقزيم والتمييع وتقليم الأظافر، من دون أن يصل الأمر إلى حدّ الإبادة والإلغاء التامّ، وهو نهجٌ قديم بدأ مع تأسيس الدولة، وعماده الإقصاء والإدناء، وانتزاع الجوهر مع الإبقاء على المظهر فقط، بحيث يستحيل المعارض مثل مومياء منزوعة الأحشاء، موجود شكلًا ومفرّغ مضمونًا. ويحسب للنظام أنه نجح تمامًا في هذا النهج، حتى مع الأحزاب الأكثر تنظيمًا، والتي لم يعد لها من حيّز فعلي في الحياة السياسية الأردنية، باستثناء منشورات لا يقرأها أحد، ومحاولات يائسة لإيصال ولو عضوا حزبيّا واحدا إلى البرلمان بلا جدوى.
كان نجاحًا مبرمًا بلا ريب، ويبدو أن الدعوة التي كانت تتردّد كثيرًا على لسان الملك بضرورة "تحويل التحدّيات إلى فرص"، لم تجد سبيلًا إلى النجاح إلا مع "تحدّي المعارضة" فقط، بتحويل رموزها إلى موالين ومصفقين بين طرفة عين وانتباهتها، بينما لم تتحوّل تحدّيات الأزمات الأخرى كلها إلى فرص، سيما تحدّيات الغلاء والفقر والبطالة وبلوغ الأوضاع الاقتصادية حافّة الانهيار الفعلي.
واليوم، يبدو النظام في الأردن متمكّناً ومزهوًّا بتحقيق جملة انتصاراتٍ ترتّبت على وأد ما سميت "قضية الفتنة"، فقد تسابقت دول خليجية متهمة بالتواطؤ فيها إلى محاولة استرضاء النظام، فيما يعود أحد الذين انحازوا للأمير حمزة في أثناء اشتعالها نادمًا يبحث عن مغفرة. وعلى الجانب الآخر، على أجهزة الحكم في الأردن أن تعيد النظر في زهوها وانتصاراتها، والكفّ عن تبنّي المثل الشعبيّ "كلب يعوّي معي ولا يعوّي عليّ"، لأنّ تمييع المعارضة وسحب عظامها وتحويلها إلى إكسسوار إضافي من إكسسوارات النظام لن يشكّل مصلحة وطنية البتة، فمبدأ التحدّي والاستجابة يفرض وجود قطبين متنافرين يمنحان الوطن شحناتٍ إيجابية فاعلة، ويعزّزان روح الإبداع في جنباته.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.