الانحطاط في تنشئة الاستبداد والترقي في مواجهة الاستعباد

20 نوفمبر 2020

(Getty)

+ الخط -

يربط عبد الرحمن الكواكبي بين الاستعمار والاستبداد، باعتبار أن الظاهرة الاستعمارية التي سادت في عصره لم تكن حاجبة له بأي حال للوقوف على أثر الاستبداد، في سياق تلك المقولة التي تؤكد "الاستعمار والقابلية للاستعمار"، وكأنه يشير إلى مسألة الاستبداد والقابلية له، تلك المقولة التي أسّس لها مالك بن نبي وفطن إليها الكواكبي بشكل مبكر، ضمن رؤيته للاستعمار. فالمستعمر الغربي يقوم بكل ما من شأنه أن يبقى على تخلُّف تلك الدولة المستعمرة، بينما يستمر في نهب ثرواتها واستنزاف خيراتها. وهو إذ يؤكّد، فإنما يؤسّس أن التخلص من الاستعمار في طريقه لا بد وأن يكسر قيود الاستبداد، "الغربي يعرف كيف يسوس، وكيف يتمتَّع، وكيف يأسر، وكيف يستأثر. فمتى رأى فيكم استعداداً واندفاعاً لمجاراته أو سبقه، ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطاً كبيراً...، وكذلك شأن كلِّ المستعمرين. الغربي مهما مكث في الشرق لا يخرج عن أنَّه تاجر مستمتع، فيأخذ فسائل الشرق ليغرسها في بلده".
ويؤسس الكواكبي لذلك الوعي الذي يربط بين الظاهرتين، فيما لو استطاع هؤلاء أن يؤسسوا لحالة تنشئة تتعرّف إلى قيمة الكلمات ومغزاها وسلامة معناها، فتؤكد على الدين ووظيفته، والحق واتباعه، والحرية والتزامها، والاستقلال من غير تبعية، وإنسان الفاعلية الذي يصنع المستقبل لا إنسان الماضي الذي يركن لأمجاده، والمصالح الأساسية التي يمثلها، ونشاط الحياة الذي يشير إلى النصب والتعب، وتقدير قيمة الوقت، وشرف العلم ومكانته، والخوف من الله وحده لا يخشى أحداً سواه، "... ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد. وأنْ يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات...، ديني ما أُظهر وما أُخفي؛ أكون؛ حيثُ يكون الحقُّ ولا أبالي؛ أنا حرٌّ وسأموت حرّاً؛ أنا مستقلٌّ لا أتِّكل على غير نفسي وعقلي؛ أنا إنسان الجدّ والاستقبال، لا إنسان الماضي والحكايات؛ نفسي ومنفعتي قبل كلِّ شيء؛ الحياة كلُّها تعبٌ لذيذ؛ الوقت غالٍ عزيز؛ الشَّرف في العلم فقط؛ أخاف الله لا سواه".

مسألة الاستبداد والقابلية له مقولة أسّس لها مالك بن نبي، وفطن إليها الكواكبي بشكل مبكر، ضمن رؤيته للاستعمار

إن هذا الوطن الحر الذي ينتج من كل هذه المسالك، هو الجدير وحده بأن يوقف عبث اللئام من المستبدّين الذين يفتكون بالوطن، ورأس ماله الإنساني ويخرّبون العمران، ويمرّرون الظلم والطغيان، ذلك أن الوطن الحر هو الحر بأبنائه الأحرار، لا ذلك الوطن الذي يقطنه الخاملون فلا يعيشون كراماً أعزّةً، بل لا نجد فيهم أحداً لا يصدع بقول: "أنا لا أخاف الظالمين". وضمن هذا السياق، تكون كل تلك الأمور التي تسوّغ لحال الاستبداد ومصارع الاستعباد. إن الوطن الحر في هذا المقام لا يتشكل إلا من إنسان حر؛ والإنسان الحر لا يمكن أن ينتج إلا من تربية حرّة. تقف هذه المعادلة الكبرى من الإنسان كريماً عزيزاً، لا خانعاً ذليلاً، فيرفض الاستعمار كما يقاوم الاستبداد ليعبّر عن حالة طلبه الحرية، وتأكيداً لكرامته الإنسانية؛ "وأنت أيها الوطن المحبوب، إلى متى يعبث خلالك اللئام الطّغام؟ يظلمون بنيك ويذلُّون ذويك. يطاردون أنجالك الأحباب ويمسكون على المساكين الطُّرق والأبواب، يُخرجون العمران ويُقفرون الدّيار؟...، إنَّما فقدت الأُباة، فقدت الحُماة، فقدت الأحرار..، فما هم كرائماً وكراماً، إنَّما هم.. من علمت، قلَّ فيهم الحرُّ الغيور، قلَّ فيهم من يقول أنا لا أخاف الظالمين". إن التخلص من الاستعمار والقابلية له لا بد وأن يتخلص من الاستبداد والقابلية فيه، فالاستعمار والاستبداد ملة واحدة، والمستبد، في حقيقة الأمر، مشروع خيانة، والاستعمار يوطن للاستبداد، والاستبداد يكرّس القابلية الاستعمار، ومن ثم كان الأمر الذي يتعلق بمقاومة الاستبداد وكسر قيوده ليس إلا مقاومة للاستعمار وفك قيوده.

الاستعمار والاستبداد ملة واحدة، والمستبد، في حقيقة الأمر، مشروع خيانة، والاستعمار يوطن للاستبداد، والاستبداد يكرّس القابلية الاستعمار

الأمر الذي يقع بين الاستبداد والتنشئة إنما يشكل، في حقيقة الأمر، انقلاباً في المعايير وانتهاكاً لقيم الكلمات واغتصابها، فيحيل القبيح حسناً، ويبدّل الحسن إلى قبيح، فيكون التصاغر والتذلل أدباً ولطفاً، والتملق فصاحة وبلاغة، وترك الحقوق عفواً وسماحة، وقبول الإهانة تواضعاً وترفعاً، والرضا بالظلم سمعاً وطاعة، والحميّة والعزة حماقة، والشهامة والعزّة عنفاً وشراسة، وحرية القول والتعبير تطاولاً ووقاحة، وحرية الفكر خروجاً وكفراً، وحب الوطن جنوناً وحمقاً. انقلاب المعايير ضمن هذه الرؤية ومسالك التربية التي توطن لسلوكيات النفاق والمداهنة وتمكين الخنوع والخضوع إنما يعود، في حقيقة الأمر، إلى داء الاستبداد مقروناً بالتواكل، فيجعل كل هؤلاء عالة وعطالة وآلة تدار ولا تدير. "... نحن ألِفنا الأدب مع الكبير، ولو داس رقابنا. ألِفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألِفنا الانقياد ولو إلى المهالك. ألِفنا أن نعتبر التَّصاغر أدباً والتذلُّل لطفاً، والتملُّق فصاحةً، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرِّضا بالظُّلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث عن العموميات فضولاً، ومدَّ النَّظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوُّراً، والحميّة حماقة، والشّهامة شراسة، وحريَّة القول وقاحة، وحريّة الفكر كُفراً، وحبَّ الوطن جنوناً. أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم... الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تُدار ولا تدير".

الاستبداد الذي يبلغ بالأمة حال الانحطاط ليس إلا الموت بعينه، وبلوغ الترقي ليس إلا الإنسانية والحياة فيها

وفي المقابل، تأتي طريقة مخالفة في التنشئة، لا بد أن تسلك طرائق أخرى ومسالك كبرى، تقوم على الفهم الرصين للدين وأصول الحياة الكريمة والوقوف على كل عناصر المكانة والقيمة، ذلك أن الحرية هي في تشكيل أسس لحياة من الرضا والفاعلية بما يشكل عملاً مستقلاً، وعلاقات مكينة، وتقديراً للإنسانية والعمل للنفع فيها في سياقٍ من العمل، مشفوعاً بفهم حقيقي ووعي وسعي، وهو في ذلك كما يشكل طاقة إيجابية فيضم تلك الطاقة إلى غيرها، فتتكامل الأعمال فلا يكون الإنسان أسيراً للعجز في نفسه، ذلك أن من الخير لذلك الإنسان أن يعيش حرّاً مقداماً، وإلا كان الموت أولى به. "أما أنتم، فنرجو لكم أن تنشأوا على غير ذلك، أن تنشأوا على التمسُّك بأصول الدين، دون أوهام المتفننين، فتعرفوا قدر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها...، وأن تعلموا أنَّكم خُلِقتم أحراراً لتموتوا كراماً، فاجهدوا على أن تحيوا حياةً رضيّة، يتسنّى فيها لكلٍّ منكم أن يكون سلطاناً مستقلاً في شؤونه لا يحكمه غير الحقّ، ومديناً وفيّاً لقومه لا يضنُّ عليهم بعينٍ أو عون، وولداً بارّاً لوطنه، لا يبخل عليه بجزءٍ من فكره ووقته وماله، ومحبَّاً للإنسانية ويعمل على أنَّ خير الناس أنفعهم للناس، يعلم أنَّ الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط، والسعادة هي الأمل، ووباء الأمل التردد، ويفقه أنَّ القضاء والقدر هما عند الله ما يعلمه ويمضيه، وهما عند الناس السعي والعمل، وكلّ عملٍ عظيم قد ابتدأ به فردٌ، ثمَّ تعاوَرَهُ غيره إلى أنْ كمل، فلا يتخيل الإنسان في نفسه عجزاً..، وخير الخير للإنسان أن يعيش حُرّاً مقداماً، أو يموت".
ومن هنا، كان خطاب الكواكبي استنفاراً للناشئة من جيل جديد، باعتبارهم خيرة اليوم وعدّة الغد وطلاب الترقي ورافضي الانحطاط ضمن وعي وسعي يواجه الاستبداد المانع من الترقي والمنحط بالأمم إلى أسفل الدركات، ورافضاً كل شأنٍ يتعلق بسيرة الاستبداد وتنشئته، فإن المولود في أرض الاستبداد وبيئته لا يدرس أحوال الأمم، ولا يعتبر منها أو فيها، إنه كالمولود أعمى لا يدرك للحسن معنى، والاستبداد الذي يبلغ بالأمة حال الانحطاط ليس إلا الموت بعينه، وبلوغ الترقي ليس إلا الإنسانية والحياة فيها. إنها المعادلة التي يؤكدها الكواكبي من وطن حر، وإنسان حر، وتربية حرة. إنه المثلث الذي تنعقد عليه حالة الترقي، ودفع كل مظاهر الانحطاط والاستبداد ومؤشّرات الخضوع والاستعباد.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".