الانتخابات في تونس والأنظار نحو غزّة!
مرّة أخرى، يمتنع التونسيون عن الاستجابة لرغبة الرئيس قيس سعيّد، وتكون مشاركتهم في الانتخابات المحلية التونسية ضعيفة جدا، حيث لم تتجاوز، حسب المصادر الرسمية، 11.84%، وهي نسبة اعتبرتها المعارضة مضخّمة. فما هي أسباب هذا العزوف الكبير واللافت للنظر. هل تعب التونسيون حقّا من محاولات بناء تجربتهم الديمقراطية، فقرّروا تسليم أمرهم لشخص واحد، يعتقد أنه الأجدر والأقدر على بناء نظام سياسي يقود من خلاله الشعب نحو السعادة والرفاه؟
أصبح الأمر واضحا، لم ينجح الرئيس سعيّد في تعزيز ثقة التونسيين بالعملية الانتخابية آلية ضرورية من أجل إتمام ما سمّاه "الانفجار الثوري" الذي انطلق يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010. لم يقتد 90% منهم به، في التوجّه نحو صناديق الاقتراع، بل فضّلوا البقاء في بيوتهم أو الاهتمام بشؤون أخرى، فالنظام القاعدي الذي يعمل على تركيز أسسه لم يفهمه التونسيون ولم يقتنعوا به، رغم الحصاد الضعيف للسنوات العشر الأولى التي تلت الثورة. فحصيلة عامين من الحكم الفردي كانت محدودة جدا، ودفعت التونسيين إلى تحويل وجهتهم نحو التفرّغ لهمومهم المعيشية. وإذا كانت المرحلة السابقة من الانتقال الديمقراطي قد جعلتهم يكرهون الأحزاب، ويتمرّدون على الديمقراطية، فإن الأشهر الأخيرة وضعتهم في حالة أسوأ تتمثل في عزوفهم التام عن السياسة، وعن كل ما يتعلق بالشأن العام.
لم يهتم الرئيس بهذه المشاركة الباهتة، وذهب في تفسيرها مذهبا غريبا، حين صرح بأن مردّ هذا العزوف رفض التونسيين فكرة البرلمان. وكان المنتظر منه أن يعالج الأسباب الحقيقية التي وراء هذا العزوف، فهو الذي وضع الأجندة السابقة والحالية، ودافع عن فكرة تركيز غرفة ثانية من شأنها "وضع حجر الأساس لبناء جديد"، من شأنه تعزيز الرقابة الشعبية. غير أن البرلمان البديل الذي انتخب قبل أكثر من سنة لم يغيّر شيئا في المشهد العام، وانقسم على نفسه في أول اختبارٍ عندما حاول أن يُصدر قانون تجريم التطبيع، ثم صوّت على ميزانية منقوصة، لا تحمل أي جديد. وكل ما فعله النواب هو القفز على المشكلات الحارقة وإرجائها إلى حين آخر.
هناك ارتباط وثيق بين المناخ السياسي (والاجتماعي) وتنظيم الانتخابات. إذ كلما كان المناخ جيدا وحيويا ودافعا نحو التغيير، كانت المشاركة أوسع والحماسة أقوى. وتجلّى هذا الأمر بوضوح كبير يوم الأحد الماضي، فمعظم رموز المعارضة موجودة في السجون أو مهمّشة. نشطاء المجتمع المدني والصحافيون والمدوّنون واقعون تحت مقصلة المرسوم 54 الذي يمكن أن يسحب الحرية منهم إذا عبّر أحدهم عن رأيٍ تجاوز فيه "الخطوط الحمراء". كما تواجه الجمعيات مصيرا لا يزال مجهولا في انتظار مراجعة القانون المنظّم لها. كما لا تزال القضايا المرفوعة ضد رجال الأعمال تنتظر الحسم القضائي، ولا تزال القائمة مفتوحة. أما المواطنون فمشغولون بالبحث عن المواد الأساسية، طوابير يوميا ممتدّة هنا وهناك بحثا عن السكر والقهوة والزيت وغيرها، إلى جانب الاكتواء بالأسعار المشطّة التي يُرجم بها المواطن في كل يوم أو أسبوع. لقد أصبحت تلك رياضته المفروضة عليه تضعه في مسار دائري يضعه خارج دائرة السياسة والسياسيين. دوّامة أزهقت طاقته، وأضاعت منه الوقت والجهد، فأسلم أغلبهم الأمر لله في انتظار معجزةٍ في زمنٍ خلا من المعجزات.
الشيء الوحيد الذي شدّ اهتمام التونسيين في هذه الأيام الصعبة هو ما تقوم به كتائب الشهيد عز الدين القسّام، وما يُطلعهم عليه أبو عبيدة من أخبار صادقة حول ما تكبّده العدو الصهيوني من خسائر، بفضل صمود المقاومة، فبالرغم من العدد المخيف لشهداء غزّة إلا أن صمود المقاتلين جعل الشارع التونسي يشعر بالفخر والعزّة. إذ لأول مرّة يأتي الاستثناء الوحيد في أخبار منعشة من المشرق، لأن الحروب السابقة عبث بها الإعلام الكاذب والزعماء المخادعون، فجاءت نتائجها كارثية، ونزلت على رؤوس الجميع كالصواعق المدمّرة للنفوس والعزائم. معركة غزّة هي الاستثناء الوحيد، ونجحت في تغييب الانتخابات المحلية التونسية، وجعلت منها لا حدث.