الانتخابات الفلسطينية في مواجهة التهديدات الإسرائيلية
منذ أُعلن مرسوم الانتخابات الفلسطينية، التشريعية والرئاسية وللمجلس الوطني، صعّدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حملات الاعتقال في الضفة الغربية، بما فيها في مدينة القدس. وشملت الاعتقالات، بشكل خاص، أعضاء في المجلس التشريعي السابق، وترافقت مع استدعاء نشطاء فلسطينيين عديدين في غرف التحقيق الإسرائيلية، وتهديدهم بأنهم سيعُتقلون إن أقدموا على الترشح للانتخابات. وتمثل هذه التدخلات الفجة مقدّمة لما يمكن أن تُقدم عليه حكومة الاحتلال من إجراءاتٍ للتأثير في مسار الانتخابات الفلسطينية. وأخطر هذه الإجراءات سيكون محاولة منع الانتخابات في مدينة القدس المحتلة، وعلى الأغلب في مناطق أخرى من الضفة الغربية.
سمح الاحتلال، خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة، لعدد محدود جداً من المقدسيين بالتصويت في مراكز البريد، ولكنه اعتقل كل من تجرأ على الوصول إلى القدس من المرشّحين للتواصل مع الناخبين، كما منع كل أشكال النشاطات الانتخابية. ومن المؤكد أن التصويت في مراكز البريد خيار سيئ، ويوحي بأن القدس خارج إطار البنيان الفلسطيني، وأن المصوّتين ينتمون لبلد خارج وطنهم، ولكن هذا الخيار، على علاته، لن يكون متاحاً في يوم الانتخابات التشريعية، حيث يصادف يوم السبت الذي تكون فيه هذه المراكز مغلقة.
وفي مواجهة هذه الإجراءات، تبلور موقف فلسطيني حازم، بالإصرار على إجراء الانتخابات داخل مدينة القدس، رغم أنف الاحتلال، وتحويلها إلى معركة مقاومةٍ شعبية. وتوفر الانتخابات فرصةً، إن أُحسن استخدامها، لاستنهاض المقاومة الشعبية في القدس التي استطاعت، بفضل مشاركة الجماهير المقدسية في كسر إرادة نتنياهو عام 2017، وإجباره على إزالة البوابات الإلكترونية التي نُصبت لتقييد الدخول إلى المسجد الأقصى.
أكثر ما يقلق حكام إسرائيل أن تشكّل الانتخابات الفلسطينية مدخلاً إلى إنهاء الانقسام الداخلي القائم، والذي يمثل واحداً من أهم أسباب ضعف الوضع الفلسطيني
ولدى الشعب الفلسطيني تجارب سابقة في استخدام الانتخابات وسيلة مقاومة، كما جرى عام 1976، عندما حاول الاحتلال استخدام الانتخابات البلدية لفرض قيادةٍ متعاونةٍ معه، فقلب الشعب الفلسطيني الطاولة على رأس المخطط الإسرائيلي بتصويتٍ جارف للعناصر الوطنية التي حوّلت البلديات إلى مراكز كفاح للحركة الوطنية في مواجهة الاحتلال. ومن ناحية أخرى، سيواجه المرشّحون والناخبون الفلسطينيون تقييداً شديداً لحركتهم، بمنع معظم سكان الضفة والقطاع من الوصول إلى القدس، ومنع حركة معظمهم بين الضفة الغربية وقطاع غزة في ما يشكل عائقاً إضافياً لحرية الانتخابات.
ولن تقتصر التدخلات الإسرائيلية على العملية الانتخابية، إذ يتوقع أن تكرّر إسرائيل ما قامت به بعد الانتخابات عام 2006، باعتقال نوابٍ منتخبين للتأثير في تركيبة المجلس التشريعي وقراراته، والتي وصلت إلى حد اعتقال ما يزيد على خمسين نائبا، ما زال عدد منهم في السجون الإسرائيلية.
ولعل أهم وسيلة لردع التأثير الإسرائيلي في هذا المجال تبنّي الاقتراح الذي تقدم به كاتب هذه السطور في اجتماعات القاهرة الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، بأن يقرّ المجلس التشريعي المنتخب قانوناً يعطي الحق لكل نائبٍ يتعرّض للاعتقال، بتفويض زميل أو زميلة له بالتصويت نيابة عنه، وبذلك يتم إبطال التأثير الذي تحاول سلطات الاحتلال فرضه عبر الاعتقالات السياسية.
وما من شكّ في أن أكثر ما يقلق حكام إسرائيل أن تشكّل الانتخابات الفلسطينية مدخلاً إلى إنهاء الانقسام الداخلي القائم، والذي يمثل واحداً من أهم أسباب ضعف الوضع والموقف الفلسطيني. وإذا فشل أولئك في إيقاف مسار الانتخابات الفلسطينية بالاعتقالات، أو بمنع إجرائها في القدس، فسيحاولون إفشالها بكل ما لديهم من وسائل سرّية وعلنية، حتى يستطيعوا مواصلة الادّعاء الكاذب إن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. ومواصلة ادّعاءاتهم بعدم وجود من يستطيع تمثيل الفلسطينيين، وتعزيز استثمارهم في الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي يسعون ليس فقط إلى تعميقه، بل وإلى توسيعه بانقسامات داخلية جديدة بين القوى الوطنية الفلسطينية وداخلها.
الانتخابات وسيلة لمقاومة الاحتلال ومخطّطاته، ولتعزيز الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولاكتساب المصداقية أمام المجتمع الدولي
ليست الانتخابات الفلسطينية فقط حقا للشعب، حرم منه أكثر من خمسة عشر عاماً، وليست فقط وسيلة مهمة للتغيير الديمقراطي الذي يتعطش له الشعب الفلسطيني، بل هي أيضاً وسيلة لمقاومة الاحتلال ومخطّطاته، ولتعزيز الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولاكتساب المصداقية أمام المجتمع الدولي، ولدى أصدقاء الشعب الفلسطيني والمناصرين لحقوقه، خصوصا إذا ترافقت مع إحداث التغيير الحقيقي الذي يتعطّش له الشعب الفلسطيني في النظام السياسي الفلسطيني. وتمثل الانتخابات وسيلة لاستعادة السلطة التشريعية التي فقدت دورها سنوات طويلة، وأدى غيابها إلى زوال مبدأ الفصل بين السلطات وإلغاء استقلالية القضاء. كما تمثل فرصةً لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس الشراكة الديمقراطية، وبحيث تكون البيت الجامع لكل القوى الفلسطينية والقيادة الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني، بكل مكوناته في الداخل والخارج والمسؤولة عن القرارات الكفاحية والسياسية، وذلك، بحد ذاته، يمثّل خير وسيلة لمقاومة التهديدات والتدخلات الإسرائيلية وإفشالها.
ويعتمد استنهاض منظمة التحرير الفلسطينية على نجاح اجتماع القاهرة الثاني للقوى الفلسطينية في منتصف شهر مارس/ آذار الحالي، والذي يفترض أن يحدّد آليات إجراء الانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الجديد حيثما أمكن ذلك، وآليات استكمال أعضائه من المناطق التي لا يمكن إجراء الانتخابات فيها. ويتمثل التحدي الأساس في كل هذه العملية إن كانت ستنتج تغييرا حقيقيا و تجديدا لدماء القيادة الفلسطينية، أم ستكون مجرد وسيلة لتجديد شرعية ما هو قائم.