الانتخابات التشريعية الفرنسية والخيار المرّ

12 يونيو 2022

ملصقات انتخابية لمرشحين بالانتخابات البرلمانية الفرنسية في مونبيليه (8/6/2022/ فرانس برس)

+ الخط -

اليوم الأحد هو موعد الفرنسيين، أو من رغب منهم، مع الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، والتي يحاول من خلالها الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي فاز أخيرا بولايةٍ رئاسيةٍ ثانيةٍ، النجاح في الحصول على غالبية برلمانية مريحة، تتيح له قيادة الحكومة، والاستمرار في تنفيذ ما اصطُلح على تسميتها "الإصلاحات" في مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية، خصوصاً خلال السنوات الخمس المقبلة.

أكثر من ستة آلاف مرشّحة ومرشّح يخوضون هذه الانتخابات، ممثلين لأحزاب قديمة أو جديدة أو أعيد تشكيلها من خلال تحالفات لا ينسجم فيها أفرادها إلا نظرياً ومؤقتاً. وقد أفادت استطلاعات الرأي، كما في الانتخابات البلدية والجهوية والرئاسية سابقاً، بأن الأمر الوحيد ربما الذي سيُثير الانتباه في هذه الانتخابات النسبة المرتفعة جداً، ولربما ستكون الأكثر ارتفاعاً، لامتناع الفرنسيين عن التصويت.

ربما سيستمتع جزءٌ ممن يحقّ لهم التصويت بعطلتهم الأسبوعية، بعيداً عن برودة مراكز الاقتراع. كما سيواصل العاملون منهم في مثل هذا اليوم سعيهم إلى إحداث زيادة ضئيلة على رواتبهم، علّها تساعدهم في تجاوز التضخم الكبير في أسعار المواد الأساسية. الامتناع عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، والمتوقع أن يبلغ رقماً قياسياً، لا علاقة له بالطقس الجميل المشمس بالطبع، ولا بالرغبة في الاستفادة من هذا الوقت القصير بالعمل المثمر، ولكنه أساساً مرتبط بفقدان ثقة متنام بالمشهد السياسي وبالنخبة السياسية وبالأحزاب وبالنقابات وكل الأطراف الوسيطة، ما ينجم عنه عزوف خطير عن الإيمان بدور الانتخابات في ترجمة رغبة المصوّتين وقناعتهم بإمكانيةٍ، ولو نسبية، للتأثير في مسار المشهد العام. وبالتالي، من الطبيعي أن يؤدّي هذا العزوف إلى فقدان دعامة رئيسية من دعامات النظام الديمقراطي.

استطاع ميلانشون، بثقافته السياسية الواسعة، وقدراته الخطابية الهائلة، اجتذاب عدد كبير من محبطي اليسار التقليدي الباحثين عن زعيم

كتلتان غير منسجمتين تتصارعان على صدارة المجلس النيابي القادم. الأولى، تمثل الماكرونية السياسية، نسبة للرئيس ماكرون، وهي أصحاب الياقات البيض غير المؤدلجين، أو بالأحرى هم من ترسّخت في أذهانهم وفي ممارساتهم قناعات يعتبرها بعضهم، خصوصا من الجيل الشاب، متعلقة بوجوب العمل والإنتاج والربح، وأن من لا يعمل، ولأي سببٍ كان، لا مكان له على المسرح. وقد قُدِّر لهم أن يُلقّبوا ممثلي "المجتمع المدني" تمييزاً لهم عن ممتهني السياسة التقليديين. إضافة، تضم الفئة الأولى بقايا من الحزب الاشتراكي، استطاعت وظائف الإدارة الماكرونية سابقاً أن تجذبهم إليها، كما بقايا من اليمين الجمهوري للسبب نفسه.

تضمّ الكتلة المنافسة قوى اليسار من اشتراكيين وشيوعيين، إضافة إلى الخضر. وهي قوى مجتمعة آنياً فحسب على خوض هذه الانتخابات، وهي التي تتحفّز بشراسة لتنقضّ على بعضها بعضاً بمجرّد اعلان النتائج، لفقدانها كل مقوّمات التحالف السياسية والفكرية والتنظيمية. أضف إلى ذلك أن من يتولاها دوناً عن كل قيادات مكوناتها هو المتطرّف الشعبوي، جان لوك ميلانشون، والذي استطاع، بثقافته السياسية الواسعة، وقدراته الخطابية الهائلة، اجتذاب عدد كبير من محبطي اليسار التقليدي الباحثين عن زعيم. وميلانشون هذا، إضافة إلى ثقافته وخطابته، يتميز بغروره العظيم، حيث يقول "أنا الجمهورية". كما أنه معروفٌ بإعجابه البافلوفي بقيادات مستبدّة حول العالم لمجرّد أن في التقرّب منها عداء للإمبريالية.

اليسار المركّب، مثالي إلى درجة أنه غير قابل للتطبيق أو حتى للتصديق

يكفي النظر إلى عمل كتلته النيابية النشيطة للغاية في البرلمان الأوروبي، للتأكّد من المواقف المستندة إلى إرث إيديولوجي صدئ لم تقع عليه أية محاولة للتجديد. فقد سجّلت كتلته مواقف واضحة في هذا الاتجاه خلال التصويت على قضايا عديدة، ومنها، على سبيل المثال وليس الحصر، رفض التوقيع على قرارٍ يُدين مرتزقة مجموعة فاغنر الروسية، واستخدامها في سورية وفي ليبيا من القيادة الروسية. كما رفض التوقيع على قرار البرلمان بخصوص ضرورة احترام الحدود الأوكرانية، والتنديد بالمناورات الروسية قربها، وذلك قبل شهرين من الغزو الروسي. وفي الرفضين السابقين، لم يخف ميلانشون موقفه الصريح المؤيد للسياسات البوتينية عموماً، قبل أن يتراجع بخجل عند وقوع الغزو الروسي. من جهة أخرى، رفضت كتلته المصادقة على قرار البرلمان الأوروبي فيما يتعلق بالتنديد بقمع الاحتجاجات في هونغ كونغ، وبذلك أفصحت الكتلة عن موقفٍ ممالئ للقيادة الصينية. وفيما يخصّ لبنان، فقد امتنع عن التصويت على قرارٍ يتعلق بمحاربة الفساد ونزع سلاح المليشيات في لبنان لأن في ذلك تعرضاً لحزب الله. كما استنكف عن التنديد بإعدام المعارضين السياسيين في إيران، لمجرّد عداء طهران أميركا. .. وفي السياسة الداخلية، برنامجهم المشترك، أي اليسار المركّب، مثالي إلى درجة أنه غير قابل للتطبيق أو حتى للتصديق، وبالتالي، هو لا يخشى مساءلة سائلٍ إن فشل، ففشله يختزن في تلافيفه.

بعد جولتي الانتخابات الرئاسية، اعتبر ميلانشون أن التشريعية ستكون هي الجولة الثالثة، لأنها، حسب تقديره، ستأتي به إلى رئاسة الحكومة. إدارة من كان يعتبرهم الفرنسيون سياسيين مسؤولين المشهد السياسي بهذه الطريقة تضرّ العملية السياسية التي تبتعد عنها، خصوصاً فئة الشباب. والاستمرار في فسح المجال أمام الشعبوية والتطرّف على مختلف الاتجاهات، يُؤذن بقرب وقوع "جولة رابعة" سيكون الشارع مسرحها والعنف لغتها.