الاستعداد لمنافسة كبرى في آسيا الوسطى
استضافت الجمهورية السوفييتية السابقة قرغيزستان، قبل أيام، ثاني قمّة بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، بمشاركة رؤساء كازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان ووفد من تركمانستان، مع رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، وذلك بعد أسبوعين من قمّة غير مسبوقة، واعتبرت حدثاً تاريخياً بين رؤساء جمهوريات آسيا الوسطى الخمس والصين برئاسة شي جين بينغ، في وقتٍ تعزّز بكين هيمنتها في هذه المنطقة التي تعد تقليدياً تحت نفوذ روسيا، حيث تتحرّك بكّين لملء الفراغ في الدول السوفييتية السابقة الذي خلّفته الحرب في أوكرانيا، مع مساعٍ لتوسيع نفوذ الصين خارج حدودها، حيث استفادت بكّين من الصدام السياسي والاقتصادي بين روسيا والغرب، والعقوبات المتبادلة بين الطرفين، وزحفت بكل قوّةٍ إلى مناطق النفوذ التقليدية لموسكو.
كانت وسائل الإعلام الصينية تصف منطقة آسيا الوسطى بأنها بوّابة لمشروع الحزام والطريق الذي أطلقه شي في كازاخستان عام 2013، وأصبحت الصين الدائن الرئيسي لدول المنطقة، إذ تمثّل قروض الصين لقرغيزستان وطاجيكستان أكثر من خُمس ناتجها المحلي الإجمالي، ولا يعجب جمهوريات المنطقة هذا الاعتماد، لكن روسيا، شريكها التقليدي الرئيسي، تم جرّها إلى الأزمة في أوكرانيا، وتخضع اليوم لعقوبات. لذلك تريد بديلاً لروسيا، وكانت الصين أول بديلٍ من هذا النوع.
في نهاية عام 2022، تجاوز حجم التبادل التجاري بين دول آسيا الوسطى والصين 70 مليار دولار، بزيادة أكثر من 40% مقارنة بالعام السابق، والصين أكبر شريك تجاري لأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان، وثاني أكبر شريك تجاري لكازاخستان وثالث أكبر شريك لطاجيكستان. ووفقاً لمعلومات صحيفة الشعب الصينية اليومية فإن إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في المنطقة بلغ 15 مليار دولار في عام 2022.
إبعاد الصين روسيا عن آسيا الوسطى أمرٌ لا يمكن الجزم فيه
ومكافأة على التعاون الاقتصادي والقروض، تريد الصين دعماً أمنياً في المنطقة، إذ توجد ثلاث ولايات على حدود منطقة شينجيانغ الأيغورية ذاتية الحكم في الصين، وقعت فيها اشتباكات خلال العقد الماضي بين السكّان المسلمين والسلطات هناك، وأدّت عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان إلى زيادة المخاوف لدى بكّين من أن "التطرّف الإسلامي" سوف يتغلغل في شينجيانغ، وهو ما يثير سؤالاً كبيراً سيبقى معلقاً إلى حين: إلى أي مدى سيكون شركاء الصين في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية على استعداد للمضي في طريق التفاعل مع الجيش الصيني؟
كما أن موضوع إضعاف بكّين نفوذ روسيا، وإبعادها التدريجي عن آسيا الوسطى، محط نقاش متزايد، والواضح هنا أن الاتفاقيات المستقبلية بين الصين ودول المنطقة ستصبح نوعاً من الإعلان العام بشأن مجالات التعاون الرئيسية، وستكون بمثابة صدىً لما هو منصوصٌ عليه في منظمة شنغهاي للتعاون، ومبادرة الحزام والطريق، وفي الوقت نفسه، لدى الصين تعاون أمني ثنائي مع هذه البلدان.
لم تكتفِ الصين بنفوذها في المجال الاقتصادي في المنطقة، بل أصبحت تبحث عن دور يتجاوز البعد الاقتصادي، وتعمل بكين على زيادة هيمنتها على تلك الجمهوريات، من خلال زيادة مبيعات الأسلحة وإجراء التدريبات وإنشاء قوات حرس حدود جديدة، إلى جانب السعي إلى أن تكون دول المنطقة في الفلك الصيني عبر مشاريعها، وورقة الديون.
ويمكن رؤية التحوّل الصيني في صفقات الأسلحة إلى حكومات آسيا الوسطى، فبحسب تقرير منتصف 2020 لمعهد كينان للأبحاث في مركز ويلسون الدولي زادت بكّين على مدى السنوات الخمس الماضية من حصّتها في المعدّات العسكرية التي تبيعها لتلك الجمهوريات إلى 18% مقابل 1.5% خلال 2010 - 2014.
بكين لم تعد راضية عن التعاون الثنائي مع دول آسيا الوسطى، وتريد أن تكون لديها وثيقة تسمح لها بتطوير العلاقات مع المنطقة ككل
وجرت العادة أنه عندما تتفاوض الصين مع الشركاء الإقليميين، يتم اعتماد وثيقة شاملة، تتعامل مع البنية التحتية والعلاقات الاقتصادية والإنسانية والأمن، والأمن سوف يتأثر هذه المرّة، حيث سيكون هناك ردٌّ على نشاط أميركا، التي تعمل، من خلال تحرّكاتها الأخيرة، على تعزيز دورها في هذه المنطقة الواقعة ضمن دائرة نفوذ الجار الروسي القوي والنفوذ الصيني المتنامي.
كانت هناك نظرية شائعة عن تقاسم للعمل في آسيا الوسطى، مفادها بأن روسيا مسؤولة عن الأمن فقط، بينما كانت الصين مسؤولة عن الاقتصاد، والواضح اليوم أن هذه النظرية لم تعد ترتبط أبداً بالواقع، إذ تلعب الصين دوراً مهماً في الأمن الإقليمي، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ تنتشر المشاعر المعادية للصين في المنطقة، ويؤثر فيها ويغذّيها العامل الديني، والأحداث عن الأيغور في شينجيانغ، والذاكرة التاريخية لغزو الصين تركستان الشرقية، وهذه المشاعر تنفخ فيها الجماعات الدينية والغرب. وإبعاد الصين روسيا عن آسيا الوسطى أمرٌ لا يمكن الجزم فيه، فقادة هذه الدول مهتمّون أكثر بدعم القوى المختلفة، مع سياسة خارجية متعدّدة الاتجاهات. وبالطبع، يسعون إلى الحفاظ على الدعم من روسيا، فهذه الدول تبقى مرتبطةً بشكلٍ وثيقٍ بموسكو، القوة الإقليمية تاريخياً، عبر تحالفاتٍ عسكريةٍ واقتصادية وروابط ثقافية.
يبقى القول إن بكّين لم تعد راضية عن التعاون الثنائي مع دول آسيا الوسطى، وتريد أن تكون لديها وثيقة تسمح لها بتطوير العلاقات مع المنطقة ككل، وكانت قمّة الصين - آسيا الوسطى في مايو/ أيار 2023 بداية هذا المسار.