الارتحال الفكري وخرائط النهوض والتغيير

09 يونيو 2023

طارق البشري ... بدأ ارتحاله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967

+ الخط -

كنت قد هممتُ بأن أطرق فكرة مهمة لدى الحكيم طارق البشري، وهي من الأفكار المركزية التي اهتم بها في مشروعه الفكري، وهي تقييم خبرة الحوار الإسلامي العلماني. ولكن فكرة أخرى واتتني، آثرت أن أتحدّث عنها أولًا، نظرًا إلى ضرورتها في قراءة الاعتبار والاستثمار لتلك النماذج المرتحلة، وهي التي تتحوّل من فكر إلى فكر، أو من تيار فكري إلى تيار فكري آخر، فالأمر يحتاج إلى التعرّف إلى هذه النماذج وخرائط التقييم والتقويم لخطاباتها عن النهضة وحواراتها، وخصوصا أنها لا تقدّم مجرّد كتابات عابرة، وإنما تقدّم ما نعتبره شهادات عن الحياة الفكرية ومساراتها، كما أنها تكتسب قيمةً إضافيةً من شخوصها، مثل المستشار البشري رحمه الله، الذي لم يكن فقط مفكّرًا أو مؤرّخًا ولكنه كان قاضيًا أيضا، يكتب أحكامه بالقلم الرصاص، وكنت قد سمّيتُ ذلك بـ"القلم التائب"، لأن هذا القلم يتلازم مع ممحاته؛ فيمحو إن أخطأ، أو إن أراد أن يعدّل أو يصحّح؛ هكذا البشري في أحكامه وهو ما يؤكّد قيمة هذه المواقف والأحكام إن كنّا نريد أن نختبر مقولات النهوض والتغيير والخطاب حولها والحوارات من أجلها.

من المهم التأكيد أن فكرة التحولات الفكرية (نسمّيها بالارتحال) قد طرقها توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية"، حينما طور فكرة النموذج "paradigm" واختيرت مفردات كثيرة لوصف ذلك الأمر من مثل تحول النموذج الفكري، أو تحول النمط الفكري، أو تحول النمط الإدراكي، أو تحوّل النموذج؛ حيث فسّر توماس كون من خلال ذلك عملية ونتيجة التغيير التي تحدُث ضمن المقدّمات والفرضيات الأساسية لنظريةٍ ما، وبالتدريج أصبح المصطلح يستخدم للدلالة على أي تغيير جذري في نهج التفكير "تحوّل فكري" سواء على صعيد النظم الاجتماعية أو المؤسّسات الكبيرة أو حتى على الصعيد الشخصي ونمط الأفكار وتحوّلها عند مفكّرين بعينهم.

قراءة عملية التحوّل أو الارتحال الفكري يجب أن تكون شاملة وعامة حول كل التيارات الفكرية والاتجاهات السياسية

بدأ الحكيم البشري ارتحاله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967، وكانت مقالته "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" أول ما كتبه في هذا الاتجاه، ثم تابع كتبه ودراساته في المجال نفسه. ويعتبر البشري بحسب باحثين عديدين من المفكّرين الذين ساهموا في توضيح معالم طريق الفكر الإسلامي، ووفّرت كتاباتهم وقتا كثيرا في رسم الخرائط المعرفية، وهو كما وصفته سابقا "الحكيم، والفقيه المجتهد" الذي "يمثّل المرجعية للجماعة الوطنية وكل التيارات، برغم أنه يُحسب على التيار الإسلامي، فهو يجمع في شخصه هوية الوطن ولغة المؤسّسة الجامعة ولغة الإصلاح. وما يميز عملية ارتحال البشري أنه رصد إرهاصاتها ومعالمها بدقّة. وقد تحدّث عنها في مقدّمة كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، الصادر في القاهرة 1980، مبينًا أن الأحداث العامة أرشدته إلى أشياء أوجبت عليه مراجعة بعض الأسس العامة في تفكيره. واقتضى ذلك منه التمهل والتريّث، حتى تستقر وجهته من جديد على نسق محدّد يمكن به تناول الأمور، وأن يعود إلى جماع نفسه واطمئنان طبعه.

وقد رصد باحثون عديدون ومهتمون بفكر الحكيم البشري عملية التحوّل أو الهجرة، والتي أسمّيها "الارتحال"، ومنهم آنجيلا جيورداني، بعنوان "المستشار طارق البشري ورحلته الفكرية: في مسار الانتقال من الناصرية إلى الإسلام السياسي" (مكتبة الإسكندرية، 2011). كما تناول تجربته هاني نسيرة في كتابه "الحنين إلى السماء: دراسة في التحوّل نحو التوجّه الإسلامي في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين" (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، القاهرة، 2010). وكذلك الباحث المتميز ممدوح الشيخ في كتابه "طارق البشري: القاضي .. المؤرّخ .. المفكّر.. وداعية الإصلاح" (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، القاهرة، 2011)، وغيرهم من الباحثين والمهتمين الذين قدّموا تصوّرات مهمة عن رحلة الحكيم البشري الفكرية، باعتباره نموذجًا على هذا التطوّر الذي طرأ على مسيرته الفكرية وتأثير ذلك على خطابات النهوض والتغيير العربي والإسلامي.

بدأ طارق البشري ارتحاله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967، وكانت مقالته "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" أول ما كتبه في هذا الاتجاه

قراءة عملية التحوّل أو الارتحال الفكري يجب أن تكون شاملة وعامة حول كل التيارات الفكرية والاتجاهات السياسية. وقد كان لي تعقيب في أحد المؤتمرات العلمية، منتصف تسعينيات القرن الماضي، على ما تفضل به أستاذنا المرحوم السيد ياسين عن تجديد الخطاب الديني، وقدّم انتقادًا للخطاب الإسلامي، ثم طفق يتحدّث عن ضرورات تجديد هذا الخطاب، وأن عليه أن يخرج من دائرة التكرار والاجترار إلى دائرة أوسع رحابة. وربما تكون لهذا النقد بعض الوجاهة، ولكنني رأيت أن مسائل المراجعة والتقييم يجب أن تكون موجّهة إلى كل التيارات الفكرية والتعقيب على خطاباتها وحواراتها، كما أنه من المهم أن يكون التقييم لمجمل حياتنا الفكرية والثقافية، وخطابات النهضة وحواراتها حول القضايا المختلفة، ولكني فقط أتّحفظ على قصر ذلك الانتقاد على مساحات الخطاب الإسلامي. واستطردت في الحديث متسائلًا: هل الخطاب العلماني لا يحتاج إلى تجديد في طرح قضاياه؟ أليس هذا الخطاب مسكونًا كغيره بمقولات جامدة وأحكام مسبقة؟ ومن ثم فإن مطلب التجديد الضروري واللازم يجب أن يكون عامًا في مساحة كل الخطاب، وإلا سنظل في دائرة الاتهام المتبادل، وهي حلقة مفرغة لا تولّد إلا استقطابًا أيديولوجيًا مغلقًا، لا يمكن إطلاقًا أن يساهم في خطاب التغيير والنهوض والإصلاح الذي يجب أن يتّسم بالانفتاح والرحابة، حتى يستطيع أن يقدّم رؤية شاملة لهذا الإصلاح، فلا رؤية شاملة بلا مفكرين ومثقفين ولا إصلاح من دون إصلاحيين، ووجب على كل هؤلاء أن يلتزموا الجادة والمنهج ولا يختزلوا في الأحكام ولا يزدوجوا في المعايير. إنها قضايا أساسية حينما نتناول مثل هذه القضايا المحورية، وقضايا النهوض والتغيير لم تعد تحتمل المكايدة ولا تحتمل تكرار أزمات الخطاب وأمراضه فتتحوّل إلى حالاتٍ مزمنة قد تستعصي مع استمرارها أن تقدّم شيئا مفيدًا ونافعًا لمشروع النهوض الكبير، ولا يستحي المفكرون في ذلك، حين ممارسة عملية التجديد، أن تتسع هذه العملية، لتلتئم مع فكرة المراجعات الفكرية التي يجب أن تكون على كل المستويات، بما يؤكّد ممارسة للنقد الذاتي، والتحريض عليه.

وحينما نتحدّث عن ظاهرة الارتحالات الفكرية، فإنها ليست قليلة، كما رصد الباحثون، فبالإضافة إلى نموذج الحكيم البشري، هناك نماذج أخرى مثل حامد ربيع، ومحمد عمارة، وعبد الوهاب المسيري، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وهي نماذج نشير إليها حاليا، وخصوصا أن بعضهم أعلن مراجعته أفكاره، وبداية أن يختطّ طريقًا فكريًا جديدًا، وآخرون لم يعلنوا عن ذلك صراحة، وإن برز منهم في كتاباته المتأخّرة ومنهجية تناوله عالم الأفكار والقضايا عملية الارتحال تلك، وكان لها أثرها البالغ في فكره وإنتاجه العلمي، وهو أمر يستأهل منا حينما نتتبع تلك المشاريع الفكرية التي صدرت عن هؤلاء المفكّرين أن تكون محلًا للتأصيل والتحليل في مقالات قادمة. ورغم أن هناك من قد يرى أن مسألة التحوّل والارتحال الفكري تعبير عن ظاهرة سلبية، إلا أنها، في حقيقة الأمر، تعدّ مؤشرًا إلى أهمية المراجعات الفكرية التي يقوم بها هؤلاء المفكّرون وقدرتهم على أن يواصلوا رحلة فكرية جديدة، علامة على الحيوية في عالم الأفكار والمراجعات. وتختلف هذه الظاهرة التي نتحدث عنها لزوما عن بعض هؤلاء الذين يتقلبون وفقًا لأهواء مزاج السلطة القائمة، والسير في ركابها، فإن هؤلاء الآخرين لا نعتبرهم في حالة ارتحال فكري، ولكن في حالة احتيال ثقافي وفكري، والبون شاسع بين الارتحال والاحتيال.

 

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".