الاحتفاء بالعادي
"بعد إذنك لو سمحت .. أنا ضابط مصري .. كلّمني أنا.. أنا نقيب في القوات المسلحة المصرية، وأنا المسؤول عن العساكر".. هكذا تحدّث أحد الضباط المصريين الذين وقعوا في يد قوات الدعم السريع في السودان، أثناء الأحداث الجارية هناك. كان العسكري السوداني يتحدّث (وربما يوبّخ) عساكر مصريين في مهمة تدريبية مشتركة مع الجيش السوداني، ويسألهم عن سبب وجودهم في بلاده. تدخّل الضابط المصري لحماية زملائه، ونشرت قوات الدعم السريع الفيديو. واحتفى مغرّدون بسلوك الضابط المصري، وعدّوه بطلا. لا أخفي إعجابي بسلوك الضابط، فهو أسير، وأمامه عساكر يقتلون زملاءهم في الجيش السوداني، ولن يتورّع أحدهم عن قتله، لو أراد، ومع ذلك تدخّل، وقام بواجبه، والأجمل أنه فعل ذلك من دون أن يلتفت إلى كاميرا تُصوّر، أو فيديو سينشر، فعَله لأنه "مسؤول".
يقفز في ذهني، مباشرةً، بمجرّد كتابة مفردة "مسؤول" أو سماعها، نصّ الراحل لينين الرملي "تخاريف"، ودور المستبدّ "سقيل الندمان" يؤدّيه محمد صبحي، ويقول على لسان وزرائه: "احنا كمسؤولين مش مسؤولين". كل سطر في هذا الفصل يمثل "دستورا" غير مسطور، لكنه منظور، غير معلن، لكن حاضرٌ في ممارسات الأنظمة المصرية والعربية، "دستور حقيقي"، يظهر في "سياسات" السلطة، والآن، ومع الرئيس عبد الفتاح السيسي، يظهر في خطاباتها، فالتراجع، على الأصعدة كافة، مسؤولية الشعب لا الرئيس ... الشعب الذي لا يعمل ... الذي يُنجب كثيرا ... الذي يقوم بثورات ... الذي انتخب الإخوان المسلمين ... الذي لا يصبر مع الرئيس على الانهيارات المتوالية في قيمة الجنيه المصري، ومن ينفقونه، مسؤولية الحرب الروسية الأوكرانية، وكورونا، والحظ والمصادفات والظروف، المسؤول دائما ليس "المسؤول" إنما ظروفٌ خارجة عن إرادته، قهرية، كونية، إلهية، لكن ليست رئاسية. من هنا الاحتفاء بموقف الضابط المصري "الجدع".. مسؤول واحد في مصر عرف ما عليه، وللغرابة: أدّاه.
لا يتوقّف الأمر عند الهروب من المسؤولية تجاه المواطن، إنما يتجاوزها إلى تجاهل المواطن نفسه، وفي مساحاتٍ عادية، ومجّانية، ولن تكلف المسؤول شيئا يُذكر، مجرّد مخاطبة المواطن، استرضائه، أخذه في الاعتبار، ولو بالقدر المسموح به. هنا نحن أمام استثناء مصري، وليس من قبيل المكايدة أن نقول إنه يخصّ سنوات حكم عبد الفتاح السيسي، من دون غيرها. تحوّلت "مرازية" المواطن "العادي"، والتنكيد عليه، إلى جزء من سياسات الدولة وأهدافها. خذ مثلا: الاحتفاء، جماهيريا ونقديا، بمسلسلات مثل "تحت الوصاية" و"جعفر العمدة"... لماذا؟، الشغل حلو طبعا، ويستحقّ، لكن اللافت أنها مسلسلاتٌ تخاطب أغلبية "المصريين"، تمنح صوتَها لمن لا صوت لهم، تناقش مشكلاتهم، تشبههم، لا تصطدم بالسلطة، فهي منها، لكنها أيضا لا تصطدم بالناس، وتسمح، بعد إذن الرقيب الأمني، أو في غفلةٍ منه، بأخذهم في الاعتبار، صار ذلك عزيزا ونادرا إلى درجة تجاوز "الفني" إلى "العاطفي" في الحمد والشكر والاحتفاء.
يبحث المصريون يوميا عن "تنفيسة"... في قرارات المسؤولين، في خطابات الإعلاميين، في الأفلام ... المسلسلات ... كرة القدم، حتى الكرة، الأهلي والزمالك، الملهاة، الأفيون، صار عزيزا أن يكون على "كيف" المواطنين. ممنوع حضور المباريات، وحين يوافق الأمن، يكون الإعلان، بفرح، مع الحمد والشكر والاحتفاء. ظاهرة مثل مرتضى منصور، لا أحد يريده، اللاعبون، الأجهزة الفنية، أعضاء نادي الزمالك، الجماهير، الجميع يصرُخ، لكنه موجود، ومفروض، وعلى رأس ثاني أكبر ناد في مصر، يهدّد الجميع، ويشتم الجميع، ويخوض في أعراض الجميع، ولا قانون، ولا قضاء، ولا دولة، مرتضى الدولة، وحين يأتي العقاب عابرا واستثنائيا وخفيفا، (شهر حبس)، وبعد جرائم تستوجب أضعافه، يكون الحمد والشكر والاحتفاء، وتحيا مصر!
ينسحب الأمر على إعلام الدولة، شاشاتها ومن عليها، لا مذيع "مبلوع"، لا شيخ، لا برنامج جادّ أو ساخر. وكلما ازداد رفض الناس ازداد تمسّك السلطة وفرضها "عقوباتها"، ظواهر مثل أحمد موسى، تامر أمين، خالد الجندي، رامز جلال، لا موهبة، لا كفاءة، لا شيء سوى "السماجة". لكنهم هنا، وبالأمر، لماذا؟ وهل يعقل أن دولة بحجم مصر لا "كوادر" لديها أقرب إلى الناس ومزاجهم. لعنة.