الاحتجاجات السورية وأحلام الثورة المغدورة

12 سبتمبر 2023
+ الخط -

منذ انطلاق الاحتجاجات السورية في شهر مارس/ آذار من العام 2011، لم يغادر حلم الثورة السوريين. بقي الحلم قائماً في أحلك الظروف التي مرَّ البلد بها، حتى في ظل أقسى الوحشية التي مارسها النظام ضد المدن والتجمّعات السكنية السورية التي شهدت الاحتجاجات ضده. 
يتجدّد الحلم اليوم مع الاحتجاجات التي تشهدها مدينة السويداء في الجنوب السوري، وبعض الاحتجاجات التي شهدها الساحل السوري، وهي مناطق أيدت النظام خلال الصراع الدامي الذي شهده البلد، وسال فيه كثير من الدم السوري. لم تعد سورية المجروحة والمدمّرة اليوم تشبه التي انطلقت منها الاحتجاجات في مطلع العام 2011، على أمل أن يُمسك السوريون بمستقبلهم، ويتخلصون من الاستبداد الذي جثم على صدرهم نصف قرن.
عندما اندلعت الثورة السورية، لم يتوقع أكثر الناس تشاؤماً ما آل إليه البلد من قتل ودمار وتخريب على يد النظام الأسدي، تجاوزت وحشية النظام كل تصوّر متشائم، ولم يكن لأي عدو، لو جرى إعطاؤه الفرصة لتدمير البلد، أن يفعل ما فعله النظام الحاكم، فهو لم يتورّع عن استخدام كل أنواع الأسلحة ضد شعبه، من الرصاص الحي إلى البراميل المتفجّرة إلى الطيران إلى الصورايخ بعيدة المدى، وصولاً إلى السلاح الكيماوي. ولم يكتفِ بقواه الذاتية، فاستعان بحلفاء ومليشيات من الخارج لقتل السوريين، ولم يكفِ دعم النظام الإيراني ومليشياته لدعم النظام المتهاوي، فاستنجد بالتدخل الروسي، الذي مارس سياسة الأرض المحروقة بالقصف الجوي لمناطق واسعة من المدن السورية، بغرض التدمير فقط. لقد تجاوز النظام شعاره الذي أعلنه منذ البداية في مواجهة المنتفضين عليه، والذي يقول "الأسد أو نحرق البلد"، وقد استطاع حرق البلد، وبقي في السلطة على أنقاضه.

لم تكن كلفة حرب النظام على شعبه قتلى وجرحى ومعتقلين ودمارا واسعا فحسب، بل أزمة اقتصادية حادّة أيضاً

لم يكن بقاء النظام ممكناً من دون الوحشية التي استخدمها هو وحلفاؤه، ومن دون الصمت الدولي، خصوصا الأميركي، والإقليمي على النظام. وكان الثمن الذي دفعه السوريون كبيراً جداً، وحتى النظام الذي اعتبر نفسه منتصراً على الـ"مؤامرة كونية" ضده، فهو انهزم عندما هزم البلد، بتدميره المدن السورية وتهجير نصف السكان داخل البلد وخارجه. ولم تكن كلفة حرب النظام على شعبه قتلى وجرحى ومعتقلين ودمارا واسعا فحسب، بل أزمة اقتصادية حادّة أيضاً، تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وإذا كانت الصدامات المسلحة غطّت على الأزمة المتدحرجة، بعد انتهاء هذه الصدامات وإعلان النظام انتصاره، تسارعت التداعيات الاقتصادية وازدادت نسبة الفقر بدرجة مرعبة، وأصبح أكثر من 80% من السكان في سورية يفتقدون إلى الأمن الغذائي. 
قبل انطلاق الثورة، كان الوضع الداخلي السوري غامضاً، فليست هناك معلومات مؤكّدة تتوفر للباحث أو الكاتب ليستند إليها في تحليل هذا الوضع، والمعلومات المتوفرة هي تلك التي يوفرها النظام، وهي معلوماتٌ مشكوكٌ في صحّتها دوماً، كما أنها مُغرضة، هدفها خدمة النظام نفسه. وكان الواقع السياسي محتكراً من السلطة وأحزابها الشكلية، وجرى قمع الأصوات المعارضة الأخرى، وإلغاء السياسة في البلد بالقمع الوحشي للمعارضة أحزاباً وقوى وشخصيات.

تحوّل النظام السوري إلى صندوق أسود لا أحد يعرف فكّ رموزه، حتى النظام نفسه

لم يعد النظام اليوم غامضاً، لقد تحوّل إلى صندوق أسود لا أحد يعرف فكّ رموزه، حتى النظام نفسه، الذي تحوّل إلى عصابة تحكم بلداً، وحوّل البلد إلى اقتصاد عصابات، وبات النظام يدير صناعة مخدّرات وتجارتها على المستويات، المحلي والإقليمي والدولي، أصبحت مصدر دخله الأكبر وأداة لإيذاء الدول الأخرى، فلم يجر تحويل اقتصاد البلد من اقتصاد عادي إلى اقتصاد حرب، بل جرى تدمير الاقتصاد واستبدل بدولة العصابة التي تقوم بالـ"تشبيح"، والتشليح ليس على من تعتبرهم أعداء فحسب، بل مارسته وتمارسه على رجال الأعمال المحسوبين عليها. 
في زمن الأسد الأب، سادت معادلة أن يصادر النظام السياسة، مقابل إبقاء الناس عند الحد الأدنى من وسائل العيش. كانت معادلة ظالمة للسوريين، أغلقت عليهم مستقبلهم بتأبيد السلطة الأسدية وتوريث السلطة من الأب إلى الابن. مع حكم الابن اختلّت المعادلة، وأخذ النهب الاقتصادي والاحتكارات التي تُمركز المال عند عدد محدود من مقرّبي النظام تُفقر مزيداً من السوريين. فاقم قمع النظام الوحشي الوضع الاقتصادي سوءاً، وباتت الأغلبية الساحقة من السوريين غير قادرة على تأمين لقمة عيشها، فقد انخفضت أجور العاملين بشكل مريع، من متوسّط ما بين 400 إلى 500 دولار شهرياً عند انطلاق الاحتجاجات، وأصبحت اليوم بين 20 و 40 دولارا، أي أن العاملين لم يعودوا قادرين على إعالة عائلاتهم برواتبهم التي لم تعد تكفي حتى أجور الطريق إلى أعمالهم. لم تنجُ الفئات المؤيدة للنظام من هذه الأزمة الاقتصادية، وإذا كان "التعفيش" وسرقة بيوت المناطق الثائرة على النظام في أثناء اقتحامها ساعد بعض فئات المؤيدين، فإن هذا المورد قد انتهى مع نهاية الاقتحامات. وبات الجميع يعاني من الفقر، كما دفعت البيئات المؤيدة للنظام ثمناً غالياً من أبنائها الذين قتلوا في الاشتباكات المسلحة، خصوصا أن هذه الخسائر تركزت في فئة الشباب.

لم يقمع النظام الثورة السورية فحسب، بل هو حطّم المجتمع السوري كله أيضاً

لا أحد يعرف مستوى التفكّك الذي يعاني منه النظام في سلسلة التراتب السلطوي، ولا مستوى التذمّر بين الفئات المؤيدة للنظام، وإذا كانت مدينة السويداء محسوبة على المناطق المؤيدة، فقد خرجت احتجاجات سكّانها إلى العلن. فهذا يعني بالضرورة أن هناك احتجاجات في الأوساط المؤيدة للنظام في الساحل أيضاً، فكل السوريين، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الطائفية، لم يعودوا قادرين على التحايل على حياتهم بالدخول التي يحوزونها.
لم يقمع النظام الثورة السورية فحسب، بل هو حطّم المجتمع السوري كله أيضاً، وشمل هذا البيئات الحاضنة للثورة والبيئات المؤيدة له. يمكن القول إن الهالة من القوة التي يحاول النظام تصوير نفسه عليها، ما هي سوى قشرة تخفي الخراب والنخر والتعفّن الذي يعاني منه، وإذا كان لا يمكن معرفة مستوى هذا التعفّن والنخر بدقة لعدم توفذر معلوماتٍ، فهذا لا يمنع رؤية الحالة الانهيارية للنظام، فحتى إنه لم يعد من الممكن اعتباره نمراً من ورق. بالقمع الوحشي دمرَّ النظام البلد وحطّم الوطنية السورية الجامعة، وهذا ما دفع السوريين إلى اللجوء لحماية الهويات الجزئية، الطائفية والجهوية. وعند هزيمة الحلول الجماعية، تصبح الحلول الفردية الملجأ، وحتى هذه الحلول الفردية لم تعد متوفرة للمواطنين في سورية. وفي مثل هذه الظروف، تولد احتجاجات جزئية هنا وهناك، لكن لا ثورة جامعة، في بلد مدمّر ومقسّم واقعياً، ومجتمع مذرّر، ولا يملك قوى سياسية فاعلة ولا مشروعاً سياسياً جامعا للسوريين.
عوامل انهيار النظام قائمة، ويمكن أن تفعل فعلها في أي لحظة. لقد سقط موضوعياً منذ انطلقت الاحتجاجات في درعا، وما قام به من قمع الثورة وتحطيم وتدمير سورية والمجتمع السوري جعل تكاليف أي تغيير كبيرة جداً، إلى درجة أن انهياره اليوم لن يكون يوماً سعيداً، لأنه جعل مهمة إعادة بناء سورية في ظل الدمار الذي أحدثه تكاد تكون مستحيلة.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.