الإضراب العام وأزمة السلطة السورية
تزداد عزلة السلطة السورية عن حاضنتها الموالية والصامتة في الأشهر الأخيرة. حيث تنهار العملة السورية يوميّاً، وتتحكّم السلطة بالموارد، وتفرض الإتاوات والضرائب على من بقي من التجار والصناعيين، وترفض أيّة مبادرات دولية أو عربية للبدء بالمرحلة الانتقالية وتسليم السلطة. قبل أيامٍ، رفع النظام الدعم بشكلٍ كبيرٍ عن أسعار المحروقات والأدوية والخبز، ورفع الأجور مائة بالمائة، فكانت النتيجة انخفاض قيمة الأجور بسبب ارتفاع الأسعار، وبالتالي، كانت الحصيلة سلبية أكثر من مائة بالمائة أيضاً.
بدأ سائقو الناقلات بإعلان ما يشبه الإضراب العام، فتوقّفوا عن العمل في مدنٍ سورية عديدة، وهذا دفع مجموعات سياسية، منها حركة 10 آب، الجديدة، وأغلب فعاليات مدينة السويداء ومناطق في درعا لإعلان الإضراب العام، يوم الخميس 17 أغسطس/ آب الجاري، واستمر في يوم الجمعة التالي. وفي السويداء، أُعلِن أن الإضراب سيستمر بدءاً من 20 أغسطس/ آب الجاري، وظهرت بيانات في المدينة، وربما لأوّل مرّة، تتضمّن عدم الاعتراف بالسلطة الحالية، وتصف الوجود الروسي بسلطة الانتداب، وأن السلطة السورية مغتصَبة من المحتل الروسي والمليشيات الإيرانية، وتوجّهت إلى المنظمات الدولية بأن تأخذ الأمر بكلِ جديّة. وعلّق محلّلون على أن هذا البيان بداية المطالبة باللا مركزية، وبما يشبه ما فعلته قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فهل سيتحقق هذا الأمر ويمتد إلى درعا!
لا يمتلك النظام من أمره شيئاً، وبعض الأموال التي أتته من الإمارات، أو النفط من إيران، لا تبدو قادرة على إيقاف التدهور، فاضطر النظام إلى إرسال وزير خارجيته إلى مصر، للاجتماع مع وزراء خارجية بعض الدول العربية، ضمن التنسيق التشاوري للتقدّم بالحوار مع السلطة، من أجل حلّ المسألة السورية، ولكن وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، وهو ما يتطيّر منه. في حوار الرئيس الأسد، قبل نحو أسبوعٍين، مع "سكاي نيوز عربية"، استهان بجامعة الدول العربية وبالعرب، وكانت أغلب التحليلات تؤكد انتهاء المبادرة.
سيضاعِف من غضب الموالين اكتشاف مقبرة للمساعدات الغذائية والطبية في منطقة عمريت غرب طرطوس، حيث دُفِنَت بعد أن فَسدت في أماكن تجميعها!
انغلاق أيّة أفاقٍ لتحسين الواقع في سورية هو ما أجبر الأسد على العودة إلى الجامعة، وربما تُقرأ استهانته تلك بالابتزاز ولرفده بالمليارات لا أكثر. هناك عامل جديد، وهو زيارة وزير خارجية إيران، حسين عبد الأمير اللهيان، السعودية، بعد إيقاف الاستمرار بتجهيز سفارات السعودية في إيران ودمشق. وربما جاء هذا المعطى بعد إعادة أميركا تموضعها العسكري في الخليج وزيادة عتادها وعددها، والخشية من الحرب ضدها، فرغبت بتهدئة المنطقة، وأرسلت عبد اللهيان. في كل الأحوال، تؤكّد تقارير صحافية كثيرة ذلك، وربما يكون تقدّم الحوار السعودي الأميركي بخصوص التطبيع مع إسرائيل سبباً للتحرّك الإيراني وسلطة دمشق.
بدأ الشعب السوري امتلاك حركات سياسية وأدوات جديدة للمواجهة، ليس فقط الإضراب والمظاهرات، السابق ذكرها، بل ووزّعت المنشورات في مدن سورية عديدة، وهناك تفكّك الحاضنة "العلوية"، حيث شهدنا أصواتاً مندّدة بكل سياسات النظام. وبغض النظر عن تراجع بعضها بسبب السطوة الأمنية، فعملت على تنزيه الرئاسة وشيطنة الحكومة ومجلس الشعب، وهو ما ظهر في بيانٍ، أخيراً، في منطقة الساحل، يؤكّد على ما ذكرنا، وتشكيل حكومة إنقاذ! وأصوات أخرى لجأت إلى الصمت، ولكن هناك أصواتاً جديدة تنضمّ للتنديد بسياسات النظام، وهذا ما يبدو أنّه سيتصاعد كذلك.
سيضاعِف من غضب الموالين اكتشاف مقبرة للمساعدات الغذائية والطبية في منطقة عمريت غرب طرطوس، حيث دُفِنَت بعد أن فَسدت في أماكن تجميعها، فكان لا بد من التخلص منها. السؤال في الساحل: لماذا لم توزّع تلك المساعدات، ونحن على أبواب مجاعة حقيقية؛ يُذكر أن تلك المساعدات جاءت من أجل مساعدة الأهالي بعد الزلزال في فبراير/ شباط الماضي، وبالتالي، سيَظهر فعل السلطة هذا بمثابة تجويعٍ ممنهج من أجل الإذلال الممنهج بدوره، وتقديم فروض الطاعة للسلطة من جديد.
لا تبدو سياسات النظام في تهجير الشعب أو التخويف من "داعش" أو التفجيرات وسواها قادرة على ضبط الوضع
تبدو السلطة متخوّفة بشدّة من هذا الإضراب، وما سبقه، وما سيليه من حراكٍ مجتمعي. مشكلتها الحقيقية في أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في غاية التفاقم، وليس من بابٍ أو نافذة للهروب. الخلاصة، الإضراب سيستمرّ، وقد ينتقل إلى مدن الساحل أو حلب مثلاً، وربما دمشق. الساحل هو الأكثر تضرّراً في الأشهر الأخيرة، وربما سيتفجّر على طريقة انفجار درعا 2011، حيث كل فعل غير مدروس، وفيه عدم احترام للناس سيكون بمثابة شرارة للانتفاضة الجديدة.
تبدأ السويداء، حالياً، بصورة خاصة، مرحلة جديدة، حيث بدأت بفكّ العلاقة مع سلطة دمشق، فقد كانت تتحرّك ضمن سياساتٍ لا تقطع مع العاصمة، ولا تسمح لها بفرض سيطرتها الكاملة عليها. الإعلان عن عدم الاعتراف بالسلطة الحالية، هذا جديد، وأيّة مواجهات مع التجمّعات المشاركة بالإضراب، أو في أيّة بلدة كبيرة، قد تُفجّر المحافظة بالكامل، ويجري إعلان الإدارة الذاتية فيها، لا سيما أن حزب اللواء السوري يرفع هذا الشعار.
لا تبدو سياسات النظام في تهجير الشعب أو التخويف من "داعش" أو التفجيرات وسواها قادرة على ضبط الوضع. مدينة درعا قابلة للاشتعال، وقد اندلعت في العديد من بلداتها المظاهرات يوم الجمعة 18 أغسطس/ آب الجاري، وقد جرى في الأيام السابقة توزيع المنشورات والكتابة على الجدران من جديد، وقد كانت هذه الظواهر قد توقفت منذ تسليم أرياف دمشق للنظام في 2018. لم يستفد النظام من ذلك التغيير، وسُلُّمت له مناطق خفض التصعيد، درعا وأرياف دمشق وحمص، عبر التحالف الروسي مع تركيا، وجرى حشر المعارضة في مناطق حدودية وفي إدلب، ورُسِمت جغرافية جديدة لسورية بين منطقة الفصائل وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام والنظام ذاته.
لم تتبنَ السلطة السورية سياسات جديدة مع الشعب، وبقيت آليات النهب والفساد والقمع، وهي محاصرة أميركياً وأوروبياً بشدّة
تغيّرت معطيات دولية كثيرة؛ فتركيا أصبحت أقرب إلى أميركا، وإيران أكثر قوّة في سورية، وتورّطت روسيا بحرب فاشلة في أوكرانيا، وتشكّلت أحلاف دولية تابعة لأميركا في مواجهة الصين وروسيا. رغم كل هذه التغيرات، لم تتبنَ السلطة السورية سياسات جديدة مع الشعب، وبقيت آليات النهب والفساد والقمع، وهي محاصرة أميركياً وأوروبياً بشدّة، حيث أقرّت قوانين أميركية تتهمها بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، والتجارة بالكبتاغون، وتشدّدت هذه القوانين في فرض الحصار ضدّها.
السلطة حالياً في أزمة شديدة، ولن تتمكّن من إنقاذ نفسها عبر المشاركة "الإذلالية" في اجتماعات جامعة الدول العربية، أو الموافقة على الذهاب إلى سلطنة عُمان للعودة إلى اجتماعات اللجنة الدستورية. أزمة السلطة وقراراتها الفوضوية دفعت الشعب نحو الإضراب العام، فهل يتمكّن الشعب وكل الفاعلين من تطوير الصراع ضدها، والوصول بسورية إلى المرحلة الانتقالية، والتوافق على البدء بتطبيق القرارات الدولية، وفي مقدمتها 2254... هذا هو المدخل إلى إنهاء أزمة السلطة التي بدأت في 2011.