الإسلاميون الأردنيون والدولة والمجتمع من منظور "الهيمنة الثقافية"
يتناول الكتاب الصادر أخيراً "الإسلاميون في الأردن: الدين والدولة والمجتمع" (سيجري إشهاره قريباً عن طريق مؤسّسة فريدريش أيبرت الألمانية في عمّان) تطوّرات الحالة الإسلامية الأردنية وتحولاتها في أعقاب مرحلة الربيع العربي، وهو وإن كان، كما يقول مؤلفو الكتاب، بمثابة زيارة جديدة Revisiting لحقل الإسلام السياسي في الأردن، إلّا أنّه يتجاوز الاكتفاء بالتقسيم التقليدي للإسلاميين عموماً، إلى إفراد فصلٍ خاصٍّ وتحليلاتٍ متخصّصة بالمنهج والمفاهيم والإطار النظري المتعلق بكيفية الاقتراب من الإسلام السياسي، ويعيد النظر في عملية صوغ الأسئلة والأجندة البحثية والفرضيات التي سادت لنسبة كبيرة من الدراسات المتخصّصة بالإسلام السياسي والإسلاميين، ليس فقط في الأردن، بل في العالم العربي عموماً.
مؤلفو الكتاب صاحب هذه السطور والباحثان حسن أبو هنية وعبد الله الطائي، ويتناول الحركات والجماعات الإسلامية الرئيسية (الإخوان المسلمون، السلفيون التقليديون والجهاديون، حزب التحرير الإسلامي، أحزاب ما بعد الإسلام السياسي)، لكن هذه المرّة من خلال مفاهيم وأطر نظرية جديدة، تتنقل من الأسئلة التي كانت تركّز سابقاً على الأبعاد الأيديولوجية (كالموقف من الديمقراطية والعملية السياسية)، أو معايير الاعتدال والتطرّف والراديكالية والإصلاح أو العلاقة مع الأنظمة السياسية، وهي جوانب مهمّة، بالضرورة، في فهم هذه الحركات والجماعات، لكنّها لا تمثل إلا جزءاً من أجزاء تتساوى معها في الأهمية، إن لم تزد عليها، خاصة فيما يتعلق بالأدوار والمهمّات الاجتماعية والثقافية للحركات الإسلامية.
جرت التحويلة المنهجية في مراجعة حقل الإسلاميين وإعادة قراءته في ضوء تحوّلات ما بعد مرحلة الربيع العربي
من هنا، كانت واضحة استعارة مؤلفي الكتاب مفاتيح منهاجية متعدّدة، من غرامشي وفوكو وبورديو، إذ استدخلوا أدوات الهيمنة الثقافية، وحرب المواقع والمثقف العضوي (بعيداً عن نسقه الطبقي)، وعلاقة المجتمع بالسلطة بالخطاب لدى فوكو، ورأس المال الرمزي والثقافي والاجتماعي لدى بورديو، وهو ما انعكس على الفصل الأول من الكتاب المخصّص لمناقشة أسئلة عديدة جوهرية في المفهوم والمنهج في حقل "الإسلام السياسي"، فجرى تفكيك مفهوم الإسلام السياسي، وما يثار حوله من نقاش وجدال، والمدارس الأيديولوجية والفكرية المختلفة عليه، ثم نوقشت نظريات وفرضيات عديدة سادت في حقل دراسات الإسلاميين، مثل مقاربة العلاقة بين السياسات شبه السلطوية والأيديولوجيا الإسلامية، أو مقاربة الاعتدال والإدماج والإقصاء والتطرّف، ومراجعة المناهج المستخدمة في العلوم الاجتماعية، مثل تالكوت بارسونز والوظيفية الاجتماعية والمنظور المؤسّسي... إلخ.
من خلال ما سبق، جرت التحويلة المنهجية في مراجعة حقل الإسلاميين وإعادة قراءته في ضوء تحوّلات ما بعد مرحلة الربيع العربي، وقد بدت بعض المفارقات المهمة في سياق مفهوم "الهيمنة الثقافية"، فبالرغم من أنّ جماعة الإخوان المسلمين تعرّضت لأكبر عملية انشقاقاتٍ في تاريخها السياسي والتنظيمي، في الأردن، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، إذ خرجت من رحمها قيادات مهمة وفاعلة ومؤثرة، ومئات الشباب القيادي، وتأسس حزبان رئيسيان (الائتلاف الوطني والشراكة والإنقاذ، وقد تناولهما الكتاب بالتفصيل)، وجرى حظر الجماعة قانونياً، وتأسيس جمعية جديدة باسم جماعة الإخوان المسلمين، أرادت سحب البساط القانوني والسياسي من الجماعة الأم، بالرغم من ذلك، كان لظاهرة الانشقاقات تأثير كبير في تحرير مئات الشخصيات للعمل في المجال العام خارج الطريقة الهيراركية التقليدية للجماعة، وبالتالي إيجاد تعدّدية إخوانية غير إخوانية في المجال العام، سواء من خلال الاندماج في الأحزاب الجديدة (ما بعد الإسلام السياسي) أو من خلال المجتمع المدني وقواه المختلفة، أو من خلال القطاع الخاص، فظهرت علامات التأثير على الفضاء العام، لهذا التيار المتديّن أو ما أطلق عليه الباحث الشاب في معهد السياسة والمجتمع في عمّان، محمد عسّاف، مصطلح "إخوان الإخوان"، من دون الاشتباك المباشر بالسلطة السياسية على قاعدة الصراع التاريخي ثنائي القطبية بين الطرفين، الحكومة والإخوان المسلمين، وهذا نقل الصراع من الاقتصار على المجال السياسي وقواعد اللعبة المحدّدة سلفاً إلى مفهوم الهيمنة الثقافية في الأوساط الاجتماعية والثقافية.
تتجاوز الهيمنة الثقافية إشكالية العلاقة بين الجماعة والدولة، تلك التي كانت تنحصر فيها نسبة كبيرة من دراسات الإسلام السياسي
تتجاوز الهيمنة الثقافية إشكالية العلاقة بين الجماعة والدولة، تلك التي كانت تنحصر فيها نسبة كبيرة من دراسات الإسلام السياسي، فهي تتناول جوانب عديدة متعلقة بعلاقة الدين بالمجتمع والدولة، وهنا نجد أن التنافس الخفي أكبر؛ وتدخل فيه أطرافٌ متعدّدة، وتختلف في إطار هيكلية الصراع الداخلي، لتأخذ طابعاً مختلفاً بين الديني والعلماني، مثلما ظهر، على سبيل المثال، في قانون الطفل، عندما اصطفّت الجماعات والشخصيات والقوى العلمانية في المجتمع المدني لدعم مشروع القانون، بينما اصطفّ التيار المتديّن، إخوان وسلفيون وما بعد الإسلام السياسي في بعض ألوانه، وتأييد غير علني من المؤسّسة الدينية الرسمية ضد مشروع القانون، على قاعدة الهوية الدينية - العلمانية للمجتمع.
يقودُنا الكتاب في سؤال الهيمنة الثقافية إلى مضمار آخر من الصراع والتنافس، وهو بين التيار السلفي التقليدي، الذي كان يحظى بدلالٍ ومحاباة من الدولة والسياسات الدينية التي بدأت تنأى عن هذا التيار وتتبنّى (بصورة غير رسمية) الخط الأشعري - الصوفي - المذهبي، ويشتبك الكتاب (تضمن لقاءات ومجموعات مركزة مع سلفيين) مع الإدراك السلفي لهذه التحوّلات وكيفية التعامل معها، وبروز ظاهرة جديدة لدى التيار السلفي، تتمثل في الانتقال المكثّف نحو العالم الافتراضي، نوعاً من التعويض عن فقدان المساحات التقليدية لنشاط هذا التيار وأدواره، واستثماراً للدور الكبير الذي بات يقوم به العالم الافتراضي في مجال التأثير الثقافي والسياسي في الأردن، وهنا تبدو المفارقة بين تيار تقليدي في خطابه وأطروحاته واستخدامه التكنولوجيا الحديثة المتطوّرة لتوصيل رسالته!
لعبة شبه صفرية بين الدولة وأي قوة سياسية كبيرة تصعد، إسلامية كانت أو غير إسلامية، تمثل تحدّياً للنظام
لم ينجُ من الصراع على شرعية التمثيل والهوية حتى التيار الجهادي، الذي كان قد انقسم بعد "داعش" إلى اتجاهين: التقليدي، وممثله في الأردن أبو محمد المقدسي، والداعشي، ويضم أغلبية جيل الشباب الجهادي الجديد، ثم برز تيار ثالث اليوم مع الانشطار الآخر للقاعدة، وتأسيس هيئة تحرير الشام، وخروج تنظيم حرّاس الدين في سورية منها، وهو التيار الذي تطلق بعض أوساطه عليه مصطلح "الجهادية المعتدلة"، ويقترب من هذا الخط أردنياً أبو قتادة الفلسطيني.
وتمتدّ الانقسامات إلى حزب التحرير الإسلامي، إذ وقعت خلافات شديدة بين قياداته، خصوصاً في الأردن وفلسطين. وتناول الكتاب تفاعل الحزب مع أحداث الربيع العربي، ودوره في سورية والانشقاقات في أوساطه وأسبابها.
عود على بدء، تتمثل المداخل المنهجية المهمة، وفقاً للكتاب، لفهم ديناميكيات الإسلامين في الأردن، في تحليل السياسات الأردنية ومحدّداتها، التي يقع في قلبها مفهوم الجيوبولوتيك، والعامل الإسرائيلي والاعتبارات الأمنية والسياسية، وتأثير السياسات الخارجية في ترسيم المعادلات الداخلية، وبالتالي، فإنّ دراسة العلاقة بين الدولة والإسلاميين وتحليلها، أو سلوك الإسلاميين السياسي لا يرتبط بالتشريعات، الدستور والقوانين، التي تجري "هيكلتها" وفقاً للسياسات، وليس العكس. وسواء تحدّثنا عن سياسات التوظيف - الاستهداف، الاحتواء - الإقصاء، فإنّ هنالك لعبة شبه صفرية بين الدولة وأي قوة سياسية كبيرة تصعد، إسلامية كانت أو غير إسلامية، تمثّل تحدّياً للنظام، ليس بالضرورة تقف ضد سياساته، بل على صعيد تصعيد قياداتٍ سياسية، وامتلاك قاعدة شعبية تمكنها من وضع قواعد أو فرض قواعد سياسيّة معينة.