الإسرائيليون وحكم اليهودية السياسية
لم يستفق الإسرائيليون من صدمة انتخابهم أحزاباً يمينية - دينية متطرّفة. أوصلوها إلى الكنيست (البرلمان) منذ ستة أشهر، وها هم ينزلون إلى الشارع، بنخبهم العسكرية والمدنية، للاحتجاج على الحكومة المنبثقة منها، برئاسة نتنياهو، صاحبة "المشروع الإصلاحي" في القضاء، الهادف إلى التحكّم به. والحقيقة أنّ ما يميز الائتلاف الجديد هذا ليس فقط "مشروعها الإصلاحي" إنما أيضاً اليد الطليقة لوزيرها في "الأمن القومي"، إيتمار بن غفير، الذي سارع إلى تنفيذ البند الآخر من تطلعات سريعة للحكومة الجديدة، وهو إزالة قرى فلسطينية في الضفة الغربية، توسيعاً للمستوطنات الإسرائيلية.
لم تهدأ الحركة الاحتجاجية منذ أسابيع. انضمت إليها ألوية من الطيارين والعسكر، لأول مرة منذ تأسيس إسرائيل. وهي اليوم تشغل جانباً يومياً من الحياة السياسية. وقد سالَ الحبر الكثير تعليقاً على هذه الحركة العارمة. والكلمة التي تتردّد بينهم أنّ مشروع الحكومة هذا سوف يُفضي حتماً إلى الديكتاتورية، أي أنه مشروع معادٍ لما يسمّونها "الديمقراطية الإسرائيلية".
كتب المؤرّخ يوفال هراري، المعروف بنقديته وبتأريخه للنوع البشري، مقالاً مفصّلاً عن هذا "المشروع القضائي"، وسماه "انقلاباً سياسياً من فوق"، لا يختلف إلا بالشكل عن "الانقلاب العسكري من تحت" الدارج في جمهوريات الموز، وغرضه إنهاء استقلالية القضاء، وإخضاعه لسلطة نواب الكنيست. ويختلف هذا المشروع عن الانقلاب العسكري "من تحت"، بعدم الإعلان عن نفسه انقلاباً، وبعدم حاجته إلى نشر الدبّابات والعسكر والحواجز على الطرقات... ويستفيض هراري في شرح الآلية التي ستعتمدها الحكومة الجديدة لجرّ البلاد نحو حكم الرأس الواحد. وإنه في حالة كهذه، حتى الانتخابات لن تنفع. والحيلة القديمة الجاهزة: الائتلاف اليميني الديني الحاكم يستخدم القانون والانتخابات للوصول إلى السلطة. وبعد ذلك، يشوِّهه الأول، يفصّل الثاني، ليكونا في صالح إعادة انتخابه. ما يعني أنه لن تكون منذ الآن أي رقابة قانونية على قرارات الحكومة وإجراءاتها. بعد كلّ هذه المطوَّلَة، يحضُر من يسمّيهم "العرب"، أي الفلسطينيين، بكلمة واحدة عابرة ضمن مجادلته، إذ يتساءل، في حال مرّر مشروع الائتلاف اليميني: "ما الذي سيحدّ من سلطة الحكومة (ساعتها)؟ في حال صوّت أعضاء الكنيست لحرمان العرب (فلسطينيي 1948) من الحقّ بالتصويت؟ أو منعوا كلّ صحف المعارضة من الصدور؟ أو سجنوا النساء اللواتي يرتَدين الشورت؟" فيما يطرح للنقاش على الكنيست مشروع قانون إعدام للفلسطينيين منفّذي العمليات.... أي أنّ أكثر المعلِّقين نباهة وانفتاحاً في إسرائيل لم يرَ، مثله مثل المتظاهرين المحتجين على "المشروع الإصلاحي" لحكومة نتنياهو، إلّا واحداً من بنودها. أما البند الآخر المتعلّق بالفلسطينيين، والقاضي بقتلهم وحرق بيوتهم ومسح قراهم... فيتلازم غيابُه مع التظاهرات الاحتجاجية ضد الديكتاتورية، مع أن جذور اليمين الديني تعود إلى الإسرائيليين بالذات، على الأقل منذ أكثر من ربع قرن، عندما اغتال إسرائيليٌّ متطرّف رئيس الوزراء إسحق رابين، احتجاجاً على عملية السلام التي انخرط فيها بالاشتراك مع ياسر عرفات. لم تكن إسرائيل عادلة تماماً تجاه الفلسطينيين في هذا الاتفاق، ولا قبله، لكنّها مكّنتهم من دولةٍ أقام فيها عرفات حكمه المستقلّ نسبياً... وبعد اغتيال رابين، وجدت إسرائيل طرقاً مختلفة لإرغام الفلسطينيين على إنكار حقهم بالحياة، وحوّلتهم إلى حالةٍ ما دون إنسانية، بوسعها إذلالهم وتجريدهم من أراضيهم وبيوتهم ساعة تشاء. وهنا تحضر مقولة ماركس "كيف يمكن لشعبٍ أن يبقى حرّاً فيما هو يضطهد شعباً آخر"... كيف يمكن للإسرائيليين المدافعين عن الديمقراطية ألّا يروا، ألّا يفهموا بأنّهم بحرمان الفلسطينيين من الحرية يحرمون أنفسهم منها في الآن عينه؟
لم يكن الفلسطينيون يسبحون في الجنة، ولم يكن القضاء الإسرائيلي عادلاً معهم يوماً. لكن مع مصادرة سلطات القضاء الإسرائيلي لصالح سياسيي العقيدة، ستكون حياتهم أكثر جحيمية
ينظر المتظاهرون والمفكرون والليبراليون اليساريون بالعين المجرّدة إلى ديمقراطيتهم المهدَّدة. لا يذهبون أبعد، عندما يحلّلون صعود اليمين الديني، فيما يتغذّى هذا الأخير عنفاً وتعصباً وإجراماً ضد الفلسطينيين، لا يرون في دحضهم الديكتاتورية بأنّ ما يرتكبونه تجاه شعبٍ مجاور لهم، سرقوا أرضه وأقاموا عليها... هو الجذر الذي أفضى إلى انتصار اليمين عليهم وعلى علمانيّتهم. ولذلك، لن يفلحوا بتوقيف مشروع الحكومة المتطرّفة بمصادرة الحريات والقانون. إذ ينظرون إليه بهذه السطحية، كمن يغضّ النظر عن جرائم يومية ضد الفلسطينيين، فتحت لها الحكومة أبوابها على مصراعيها. لم يكن الفلسطينيون أنفسهم قبل ذلك يسبحون في الجنة، ولم يكن القضاء الإسرائيلي عادلاً معهم يوماً. لكن مع مصادرة سلطات هذا القضاء لصالح سياسيي العقيدة، ستكون حياتهم أكثر جحيمية.
لكنّ قوة هذه الأحزاب الدينية الحاكمة لا تقتصر على هذا الضعف للرؤية عند خصومها العلمانيين المتنوّرين الديمقراطيين، العاجزين عن الربط بين صعودها والمزيد من التنكيل بالفلسطينيين، أو بين هذا الصعود والإجراءات الإسرائيلية السابقة لتهويد نواحي الحياة الإسرائيلية ودعمها بالدين. وأبرزها قانون "الدولة - الأمة" للشعب اليهودي الذي منح اليهود الحقّ المطلق بدولة إسرائيل (عام 2018)، فالإمداد الخارجي لهذه الأحزاب الدينية منتشر في الشرق كما في الغرب.
في الأخير، الغرب، أي أوروبا وأميركا، الديمقراطية نفسها في حالة ضعف. والمقارنة اليوم قائمة بين مشروع نتنياهو لـ"الإصلاح القضائي" والهجوم الذي قاده دونالد ترامب ضد الكونغرس الأميركي غداة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، قبل ثلاثة أعوام. القصد أن هذا الغرب تصعد فيه الأحزاب اليمينية الشعوبية العنصرية التي يفْتَتن بها رأيها العام.
تأخّرت إسرائيل لتنضم إلى الدول المحكومة روحاً أو تنظيماً بيمين ديني، للتحول إلى ديكتاتورية، مقنّعة الآن، وسافرة بعد حين
وزيارة نتنياهو إلى روما التي حاول المحتجون منعها بانتشارهم على مفترقات الطرق رسالة رمزية إلى الجميع بأنّ اليمين الشعبوي الديني لا يقتصر على اليهود الشرقيين، أصحاب الأصوات الأعلى في هذه الأحزاب، إنما له نظراؤه في بلد أوروبي عريق. إيطاليا التي تحكمها اليوم زعيمة فاشية صريحة، جورجيا ميلوني، ومؤيدة لإسرائيل قلباً وقالباً. أما شرقاً، فالدعم يأتي من المحيط القريب لإسرائيل... حيث أنظمة الإسلام السياسي تمدّ اليمين الديني الإسرائيلي بقواعد وهياكل لخيالها وفكرها، لا تنقصها بالأصل، ففي الأساس، تقوم إسرائيل على تاريخ سحيق من ألفي عام، لتدّعي بحقّها في "العودة" إلى أرض الأجداد، لتبني فيه الحكم الذي كان قائماً قبل الخروج منها، حسب تصوّرها، مثل الإسلام السياسي، حيث المستقبل يقوم على الماضي.
وكما هو حالنا، قوانين الأحوال الشخصية تحكمها بالأصل المحاكم الدينية اليهودية. ومثل إسلامنا السياسي، يريد هذا اليمين الإسرائيلي إلغاء ما تبقّى من القوانين المدنية الأخرى، واستبدالها بالشريعة الدينية. يريد استعادة وضعية النساء إلى ما كانَته في تلك العصور، إلغاء القوانين الخاصة بالمثلية الجنسية.
وبقية المُراد المشترك بيننا وبينهم تأتي من دون إبطاء: عداء عميق للتنوّع والتعبير، احتكار السلطة السياسية، وقتل كلّ السلطات والقوانين الرقابية. شعار الحرب، والجهاد الدائم، والحساسية المفرطة والانفعال الزائد من مجرد كلمة "سلام"، وفائض قوة حقيقية أو متوهَّمة. و"انتصارات" على مدّ عينَك والنَظر، ولا تأتي إلا بالقتل... وربما بعد حين، أو قريباً، الحرب الإسرائيلية ضد الأعداء الفلسطينيين بصفتها حرباً ضد الخصوم الداخل، كما هو حاصلٌ في لبنان، لكن بالمقلوب: "الانتصار" على إسرائيل، والصوت المرتفع ضدها، بصفتهما حرباً ضد خصوم الداخل.
تأخّرت إسرائيل لتنضمّ إلى الدول المحكومة روحاً أو تنظيماً بيمين ديني، للتحوّل إلى ديكتاتورية، مقنّعة الآن، وسافرة بعد حين. لكنّها سوف تلحق بركبنا سريعاً، لأنّ الربط بين مشروعها الديكتاتوري وقتلها مزيداً من الفلسطينيين ليس وارداً لدى خصومها. ويوم يحصل هذا الربط، سنكون أمام معركة حقيقية بين دكتاتورييها وديمقراطييها.