الإخوان المسلمون .. ميراث من تواضع الأداء السياسي

02 نوفمبر 2020

اعتداء على مقر جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة وإحراقه (1/7/2013/Getty)

+ الخط -

مع اعتقال المزيد من التركيبة القيادية فيها، وصدور أحكام نهائية بحق كثيرين منهم، تعمل حركة الإخوان المسلمين المصرية على إجراء ترتيبات داخلية، أثارت جدلاً حول مدى قدرتها على التكيف وحشد إمكاناتها، فعلى مدى السنوات الماضية، أدى اعتقال المستويات القيادية إلى اتخاذ تدابير تعويضية لملء الفراغ، ففي 2015 تم تشكيل لجنة إدارية في مصر لتقوم بمهام مؤقتة. ولكن مع تزايد الأزمات الداخلية، اتجهت الجماعة إلى نقل نشاطها إلى المنفى. وهنا، تبدو أهمية قراءة ما يتم من تعديلات في ضوء مراجعة مشاركتها السياسية على مدى العقود السابقة، مؤشّرا على حقيقة موقع الجماعة في النظام السياسي.

تعد التعديلات الإدارية، سبتمبر/ أيلول 2020، المحاولة الرابعة لتعويض الفقد القيادي بسبب الاعتقال. ويمكن وصف المحاولات الثلاث بأنها كانت نتاج مشاوراتٍ محدودة، لم تشمل كل المعنيين، كما أنها كانت مصحوبةً بظهور أزمات وانقسامات داخلية. ولعل الملاحظة الأكثر أهمية تتمثل في الانتقال العشوائي للقرار إلى خارج مصر. وبالتالي، تبدو هذه السمات تعبيراً عن قابلية "الإخوان" للانزياح من المشهد السياسي، فكان من المفترض أن يؤدّي تكرار محاولات التشكيل إلى مراجعة وضعها السياسي، والبدء في تحقيق أهدافها المعلنة في تصريحاتها اليومية الثورية، والداعية إلى إسقاط الحكم، غير أن الانهيارات المتتالية للجان الإدارية يشير إلى وجود خطأ مستمر يتماثل مع سوابق سلوكية وسياسية.

تعمل حركة الإخوان المسلمين المصرية على إجراء ترتيبات داخلية، أثارت جدلاً حول مدى قدرتها على التكيف وحشد إمكاناتها

مع التشكيل الأخير، بدت محاولة تدوير لمواقع الإدارة العليا مغريةً للتفاؤل من وجهة أنها تضفي سمةً حيويةً على نشاط الجماعة، وقامت هذه التوقعات على افتراض أن إلغاء مواقع إدارية وظهور لجنة جديدة يعد بمثابة تغيير في شبكة العلاقات التنظيمية، يمكن أن يؤدّي إلى إعادة ترتيب مسار صنع القرار. تبدو هذه المجادلة أسقطت من تقييمها مصادر النفوذ التنظيمي كمتغير أساسي في الهيمنة، وخصوصاً ما يرتبط بالعلاقات الشبكية وتسيير التدفقات المالية، وهي تستمر فترة طويلة نسبياً، بسبب بقاء شاغلي المواقع العليا عقودا خلت، احتفظت فيها بمقومات ومسارات إدارة الأزمة مع الدولة، بحيث صارت جزءًا من الاحتجاج بأهمية استمرارها ضمن الهياكل الإدارية.

وبغض النظر عن جدّية التغيير الإداري، تبدو النقطة الأكثر أهمية متمثلةً في ظهور التعديلات صيغة لتوطيد الحركة في المنفى، في سابقةٍ لم يجرّبها التنظيم المصري، حيث ظل يدير علاقاته مع الدولة من داخل البلاد، فقد انتقل المقر الرئيسي إلى بريطانيا، وصار المكون القيادي خارج مصر، وهو ما يشكل أرضية ملائمة لتعميق أزمته مع الحكومة، بسبب وقوع أنشطة الجماعة تحت مظلة بلدان أخرى، فهذا التوجه يساعد على نضوج قناعات تصفية حركة الإخوان، وتراجع الرغبة في المساومة على بقائهم في الحد الأدنى. 

قد يعطي التقييم الراهن للتغيير الإداري في حركة الإخوان مؤشراً احتمالياً على تحسن البدائل أو تدهور المسار الحركي، ومن ثم، تبدو ضرورة الاستعانة بمؤشّر آخر يساعد في الاقتراب من رسم منحنى الأداء السياسي عبر فترة زمنية أطول نسبياً. وفي هذا السياق، يمكن طرح المشاركة الانتخابية دلالة على ارتفاع الوضع السياسي لحركة الإخوان أو اتحداره، حيث يمكن اعتبار الحصول على مقاعد تشريعية دلالةً على القدرة التنافسية للجماعة ونفوذها في النظام السياسي.

انتقل المقر الرئيسي إلى بريطانيا، وصار المكون القيادي خارج مصر، وهو ما يشكل أرضية ملائمة لتعميق أزمته مع الحكومة المصرية

يكشف تحليل الخط البياني للمشاركة السياسية للإخوان المسلمين عن هامشية النتائج على مدى تاريخ الحركة ، فمنذ 1984 ظل الأداء الانتخابي غير منتظم، فمن جهةٍ، ارتبط الامتناع عن المشاركة في 1990 للخلاف حول قانون الانتخابات. وأيضاً، ارتبط الانسحاب من جولة الإعادة في 2010 باتساع نطاق المخالفات الانتخابية. وفي 2015 و2020، بسبب دخولها في أزمة مع الدولة، وقد ترتب على هذه الحالات خروج الجماعة، عملياً، من العملية السياسية. ومن جهة أخرى، شهدت نتائج مشاركتها تبايناً واضحاً، بحيث يمكن القول باهتزاز القدرة السياسية للجماعة، فقد تراوجت نتائجها ما بين 0.1% (1995) و 42.7% (2011)، فقد بلغ متوسط النتائج في عشر انتخابات 7.34%، وباستثناء انتخابات 2011 تخفض هذه النسبة إلى 3.4 % ، وتنخفض أكثر إذا ما تم استثناء انتخابات 2005 لتصل إلى 1.3%، بشكلٍ يتسق مع نتائج سابقة في مراحل تأسيس الحركة، عندما لم تحصل الجماعة على مقاعد نيابية في 1938 أو 1942.

وبينما كشفت انتخابات 2005 عن ارتفاع تنافسية مرشحي الإخوان المسلمين، وحصولهم على متوسط 30% من أصوات دوائرهم الانتخابية، وهي نتائج ترجع، كمحصلة مشتركة ، إلى ضعف الأداء السياسي والاقتصادي للدولة، ووجود ضغوط خارجية للإكراه على التحول السياسي، فيما يرجع ارتفاع هذه النسبة إلى 45% في 2011 لامتناع الحزب الوطني والقوى الاجتماعية المرتبطة بنظام حسني مبارك، عن دخول الانتخابات، ما أفسح المجال أمام مرشحي حزب الحرية والعدالة وحزب النور للإستحواذ على الأغلبية المطلقة. ويبدو ارتفاع تمثيلها في انتخابات 2005 و2011 مرتبطاً بعوامل خارجية سمحت بظهورها، ففي الحالة الأولى، كانت التوجهات الدولية لدعم التحول الديمقراطي وتعزيز الإشراف القضائي على الانتخابات متغيراً مهماً في فتح المجال السياسي أمام دمج الإسلاميين في النظم السياسية، غير أن التطوّرات اللاحقة كشفت عن استعادة السلطة زمام المبادرة عبر تحييد دور الإخوان في المجلس التشريعي، وإجراء تعديلات دستورية واسعة، هدفت إلى احتواء الأثر السياسي للإنتخابات. 

يكشف تحليل الخط البياني للمشاركة السياسية للإخوان المسلمين عن هامشية النتائج على مدى تاريخ الحركة

وفي الحالة الثانية، كان اندلاع ثورة يناير بمعزلٍ عن حركة الإخوان والتنظيمات السياسية القائمة، وكانت التقديرات الأولية للجماعة بإمكانية السير نحو فترة مؤقتة، يتم فيها ترتيب الأوضاع تحت وزارة أحمد شفيق، 29 يناير/ كانون الثاني 2011، وتعيين عمر سليمان نائباً للرئيس حلا وسطا، ما يمكن تفسيره بالتردّد في التلاقي مع حراك الشباب، ولكنها دخلت، في النهاية، مستفيدة من احتمالية التغيير من دون طرح ملامح مشروع أو تصوّر سياسي. وبهذا المعنى، يتسم الأداء بنوع من اللدونة يجعل الجماعة تتحرّك في الفراغ المتاح، اتساعاً وضيقاً، من دون رسم خيارات تتوافق مع قدراتها الذاتية. وهنا، تعطي مغالاة الطموح بعد 2011، ضمن أمثلة أخرى، دلالة على الرغبة في الاستحواذ بغض النظر عن رشد القرار، ولعل سهولة إزاحتها وإخراجها من المشهد السياسي، سنوات طويلة، توضح السمات الفوضوية لاتخاذ القرار وهشاشة أرضيته.

وعلى الرغم من أهمية انتخابات 2005، فقد دخلتها حركة الإخوان ببرنامج انتخابي لا يلبي مساحة الانفتاح السياسي في تلك الفترة، فقد احتوى صيغاً تركيبية عن الإصلاح السياسي على قاعدة المبادئ الإسلامية، تضمن نظاما جمهوريا برلمانيا دستوريا ديمقراطيا (برنامج 2005)، يقوم على السيادة الشعبية وحرية الرأي. بجانب سياسات الرعاية الاجتماعية، على الرغم من محاكاة الليبرالية الجديدة، كما بدا الشروع في إعداد برنامج سياسي في يناير/ كانون الثاني 2007، محاولة لاستباق حملة اعتقالات، ولم يكن تعبيراً عن توجه لإنضاج المشروع السياسي بقدر ما كان مادة للصراع .

يتسم الأداء بنوع من اللدونة يجعل الجماعة تتحرّك في الفراغ المتاح، اتساعاً وضيقاً، من دون رسم خيارات تتوافق مع قدراتها الذاتية

وبغض النظر عن تغير المناخ السياسي، ظلت البرامج الانتخابية منحسرة في المحتوى الدعائي، وظهرت صعوبات تحويلها للتنفيذ فترة ما بعد 2011، سواء في ما يتعلق بإصلاح النظام السياسي، أو تعديل الثقافة التنظيمية القائمة على النظرة الثنائية للبيئة المحيطة، وفق علاقة المنتمين وغير المنتمين (الإخوان والعوام كما درجت عليه الثقافة التنظيمية)، وهي قناعاتٌ طاردةٌ لقيم التعدّدية والتنوع، وظهرت ملامحها في إكراهات الاتحاد السياسي.

وبشكل عام، يبدو منحنى مشاركة الإخوان في مصر واسع التفاوت، ليس فقط بسبب عدم التمثيل في بعض الفترات، ولكن في تباين النتائج منذ ثمانينيات القرن الماضي، فعلى الرغم من عدم حدوث تغيرات جوهرية في فترة مبارك وروتينية عمل النظام السياسي، لم تتمكّن الجماعة من الحفاظ على مستوى مستقر من الأداء السياسي، يمكن إرجاع ذلك إلى ميراث الخلاف الممتد مع الدولة، غير أن إصرار الجماعة على تقديم نفسها بديلاً للنظام القائم والمشاركة على أرضية التحدّي، كما في دورات انتخابات 1995 – 2005، ساهم في انحسار البدائل التفاوضية، وهو ما يكشف عن وجود أزمة في إدراك طبيعة التحدّيات، ولعل أهمها أن دخول الجماعة دورات صراعية رسم أوضاعها كياناً خارج البيروقراطية وتحت الملاحقة. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى سهولة استبعاد الإخوان بعد 2013، تعبيرا عن نجاح التجريب السياسي منذ 1948، حيث صارت كتاباً مفتوحاً يخلو من المحتوى الجديد القابل للقراءة.

شاعت أدبيات المحنة والابتلاء لتشكل القيمة العليا التنظيمية والخلفية التفسيرية لكل التصرّفات، صعوداً وهبوطاً أو نجاحاً وانكساراً

وثمة تبرير لهذه النتائج بتعسف السلطة وتزوير الانتخابات، غير أن تكرارها من دون مراجعة أو تقييم، يمكن تفسيره من جانبين؛ لعل التفسير القريب يميل إلى بقاء الجماعة في حالة جمود أو ركود واسع المدى، غير أن الرضى بهذه الحالة، الجانب الثاني، فيعكس نوعاً من الرغبة في البقاء في مربع الأزمة الداخلية، أو الاستمرار مشكلة أمنية. ولعل التفسير الأخير يتقاطع مع أدبيات مركزية في الحركة، تقوم كلها على تحبيذ حالة المحنة اصطفاءً وتمحيصا، بشكل جعل تاريخ الجماعة صنو الحبس والاعتقال، سوى من فترات قليلة التقطت فيها بعض الأنفاس، فقد شاعت أدبيات المحنة والابتلاء لتشكل القيمة العليا التنظيمية والخلفية التفسيرية لكل التصرّفات، صعوداً وهبوطاً أو نجاحاً وانكساراً، كمظاهر للانتصار والقدرة على البقاء، ما يعكس تراتبية عقلية التخلف، فاستمرار الخسائر فترة طويلة يعاكس الفطرة السليمة لإدراك طبيعة الأشياء وحقيقة النجاح والفشل، عندما عجزت جمعية الإخوان، الجماعة لاحقاً، عن تجاوز أزماتها الذاتية والسياسية.

قد تفسر النزعة الفردية جانباً من المشهد السياسي، ففي بعض المواقف، لا تبني حركة الإخوان موقفها من السلطة على خلفية أيديولوجية، إذ تتقارب معها عندما يتزايد تأثير منافسيها المحتملين. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الاقتراب من خيارات الدولة/ السلطة تجاه الحراك الطلابي في 1946، والتمهيد لقبول "توريث السلطة" في 2010، والخروج على مقاطعة الانتخابات العام نفسه. وقد تكرّرت المشاهد نفسها منذ 2011 وحتى منتصف 2013، ولعل تقارب السلوك في مراحل التغير السياسي يعكس النزعة الفردية وسيادة المشروطية للدخول في تحالف سياسي، وتشير خبرة ما بعد 2013 إلى بقاء النزعة الاحتكارية عاملاً رئيسياً في تقييد العمل المشترك.

ساهمت المركزية التنظيمية في نمو النزعة الفردية. ويمكن الرجوع إلى بدايات التفكير، المفاجئ، في دخول الانتخابات الرئاسية

وأيضاً، في داخل الجماعة، ساهمت المركزية التنظيمية في نمو النزعة الفردية. ويمكن الرجوع إلى بدايات التفكير، المفاجئ، في دخول الانتخابات الرئاسية، حيث تكشفت خرائط الدخول على هذا الملف مع بداية فبراير/ شباط 2012، وهذا ما يتضح من تتابع وصول المشاركين في الحملة الانتخابية من الخارج، ولاحقاً، كانوا نواة الفريق الرئاسي، حيث إن ظهور هذه المجموعات يشكل علامة ظاهرة على الترتيب المسبق لطرح موضوع الترشّح ما يرجح الاستظهار بالشورى، كما يكشف الخلاف حول التعديلات الأخيرة، أن التعامل على المواقع داخل الحركة بطريقةٍ أقرب إلى التداول حول ميراث شخصي يدور بين فرقة محدودة، وهي أزمة تعكس انهيار الوظائف التنظيمية وفتحها للاستغلال وإساءة التوظيف، بصورةٍ يصعب استبعادها من التسبب في تواضع الأداء السياسي واستخدام الجماعة لخدمة تطلعات فردية، وزجها في سلسلة أزمات طاحنة.

وعلى الرغم من مرور عقود على نشأة الحركة، ظل أداؤها السياسي هامشياً لا يبرر كثافة الجدل حول مسيرتها، ما يمكن تفسيره في ثلاث نقاط. تنحدر الأولى من انخراط "الإخوان" في الحركة الوطنية فترة ما قبل التحول نحو الجمهورية بشكلٍ رتب تداخلاً في النخبة، ما أسّس لسردية الإدماج في النظام السياسي. وتتعلق النقطة الثانية بالانتشار الإقليمي ومحاولة بناء صورة ذهنية تتجاوز الدولة القطرية. وتتمثل الثالثة في عدم اتباع الدولة نموذجا للتنمية يمكّنه من حل المشكل الاقتصادي وتقرير التعدّدية السياسية. وبغض النظر عن العوامل التي شكلت ميراث الأداء السياسي لحركة الإخوان، تبدو تحرّكاتها الحالية متسقةً مع ميراثها السابق، فقد ارتبط تدوير اللجنة الإدارية بانحسار مستمر على مدى السنوات السابقة، ومن دون أن يكون استجابة لتوجهات جديدة أو مراجعة سياسية. ولذلك، تتزايد توقعات بقاء الحركة في أزمة داخلية ومع الدولة، ولعل امتداد الأزمة، عبر أجيال، يعكس احتمالية أنها صارت حالةً مرغوبةً تسمح بالتهرّب من المحاسبة والتقييم.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .