الإجماع الإعلامي يرسخ تصنيف الضحايا

03 نوفمبر 2023
+ الخط -

من الصعب على أيّ عربي أن يتابع تغطية الإعلام الغربي للحرب الإسرائيلية على غزّة من دون أن يشعر بالغضب والظلم والخوف من المستقبل. تحوّل العرب المقيمون في الغرب إلى شهود على هذه التغطية، في حين أن هذا الإعلام نفسه يشكّل محورا رئيسيا في علاقتهم في المجتمعات المضيفة، ولا يقدّم الإعلام العربي بديلا لتغطيةٍ بإمكانها أن تُنافس سرديات الإعلام الغربي عن النزاع. لم تعد المسألة مجرّد تمثيل الطرف الآخر ومعاناته والتوازن في هذا التمثيل على عادة النقاش في نوعية التغطية الإعلامية للنزاعات في منطقتنا وعدالتها. لم يعد النقاش أيضا مساواة القاتل والضحية في عرض سرديات الأطراف المتنازعة. المسألة الآن، حسبما يقدّمها قسم كبير من الإعلام الغربي، نزاع بين عالم غربي "حضاري" وعالم آخر "همجي" يعود إلى القرون الساحقة يجب القضاء عليه أو أقله لجمه في معركة "الخير" مقابل "الشر".

أكاد لا أصدق أذني وأنا أستمع إلى تحقيق في قناة آرتي الفرنسية النخبوية يقدّم النزاع، على لسان المعلق، أنه حلقة جديدة في صراع الحضارات بين الغرب والشرق. لم يأت الكلام على لسان أحد الإسرائيليين، وقد اعتدنا منذ اندلاع النزاع، على شهادات تضجّ بالأوصاف التحقيرية على أنواعها، ومنها توصيف مسؤولين إسرائيليين حركة حماس ومناصريها ب"الحيوانات البشرية". جاء التعليق على لسان الصحافي الذي ربما لم يتسنّ لديه الوقت، ولا الرغبة في الاطّلاع على تاريخ الصراع في المنطقة والوضع الخاص لقطاع غزّة، السجن المفتوح على احتمالات المستحيل. ببساطة، اقتبس الصحافي من شهادة الإسرائيلي الذي يقدّم نفسه مواطنا في "دولة غربية ديموقراطية"، ليستنتج أن المسألة هي صراع بين الحضارة ونقيضها. في أوقات النزاعات التي تفوق مخاطرها المعتاد، يتحوّل الإجماع على العدو الخارجي الخطير سرديةً يتفق عليها ضمنا الإعلام في ما يراه واجبه الوطني أو القومي ضد "الأشرار". أعاد الإجماع على سردية التضامن ضد العدو الخارجي الخطير إنتاج الانقسام الذي تلا اعتداءات "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة، عندما تحوّل العالم، في عرف غالبية الإعلام الغربي، إلى حلبة صراع بين العالم الحضاري ومن يريدون تدمير هذه الحضارة بالإرهاب الهمجي. يتيح هذا الإجماع تبسيط النزاع وإلغاء تعقيداته وترتيب الأطراف المعنية فيه على أنهما فريقان مختلفان تماما، لا يمكن أن يلتقيا، إذ إن صفات الخير التي يستوي عليها الفريق الأول تستوجب بالضرورة القضاء على الفريق الثاني أو السيطرة على شرّه.

ليس من المستغرب أن تستخدم شهاداتٌ لإسرائيليين تعبيراتٍ تمييزية عنصرية، تردّد الخطاب السياسي المحلي، وتتماهى مع حالة الهلع والغضب في الرأي العام الإسرائيلي. إلا أن الخطير وغير المسبوق أن تمتد هذه التعبيرات إلى استخدامات الصحافيين أنفسهم على مثال أن يردّدوا تعبيراتٍ مثل "البربرية" أو "الهمجية"، أو يشكّكون بأن حياة طفل في غزّة تساوي حياة طفل آخر في إسرائيل. شهادات إسرائيليين، بما فيها من ترويج لروايات قتلٍ واغتصابٍ وترويعٍ لم يتم تأكيدها أو تم دحضها، يتلقفها محاوروهم من الصحافيين بهزّ الرأس، وكأنها أمر مفروغ منه. على سبيل المثال، حاورت القناة الرابعة البريطانية ناجيا من الهولوكوست، قرّر أن يحمل السلاح ليشارك في عملية اقتحام غزّة. يسأله المحاور: هل يعتبر كل أهالي غزّة مسؤولين عن عمليات القتل في المستوطنات؟ يردّ العجوز بأن غالبية أهالي غزة مسؤولون. لا يرى الصحافي مشكلة في محاورة الرجل، وهو يرتدي البذلة العسكرية حاملا السلاح.

يتم تضييق مساحة التنوع في التغطية الإعلامية، وهي مساحة ضرورية للإحاطة بتعقيدات النزاع ورواياته المتعدّدة، بما يتجاوز سرديات النقائض

نجح الخطاب السياسي الإسرائيلي والتأييد العالمي له في تقديم الضحايا الإسرائيليين أنهم أصحاب الحقّ في أن يكونوا ضحايا كاملين، في حين أن الضحايا الفلسطينيين "لا بد منهم"، أي أنهم ضحايا مصيرهم لا آلة الحرب الإسرائيلية. نجح الإجماع في تضييق مساحة التنوع في التغطية الإعلامية، وهي مساحة ضرورية للإحاطة بتعقيدات النزاع ورواياته المتعدّدة، بما يتجاوز سرديات النقائض. يحول الإجماع دون الغوص في تاريخ النزاع وحيثياته، لأن في ذلك تهديدا لسردية الضحية الكاملة، خصوصا وأن السردية لا تتناسق مع هول الوقائع، حيث يقضي الضحايا المحتومون في مشهد دمار وقتل مروّع، في حين يبدو الضحايا الكاملون محميين بالقوة العسكرية والاعتراف العالمي. لا يعني ذلك بالضرورة التعمية على مقتلة الفريق الأول من الضحايا، إذ تحتلّ رواية قتلهم مساحات واسعة من التغطية الإعلامية، إلا أن هذه التغطية لا تخرجهم من إطار "الضحية التي لا بد من سقوطها"، لتكتمل عملية تصفية الحسابات في القضاء على "الشر".

من غير المفيد أو العلمي أن نتحدّث عن "مؤامرة" إعلامية، متغاضين عن التنوّع المتبقي في التغطية الإعلامية وصعوبة موقع بعض الإعلام في تلقي الاتهامات بالتحيّز من طرفي النزاع بما في ذلك شبكة الإعلام البريطانية (بي بي سي) التي نالت كمية كبيرة من الاتهامات، إلا أن الإجماع على تصنيف الضحايا وأولويتهم في استحقاق التعاطف الدولي بين ضحايا "الصفّ الأول" وضحايا "الصف الثاني" يُفضي بالضرورة إلى نزع الإنسانية عن ضحايا آلة الحرب الإسرائيلية والمتعاطفين معهم، باعتبارهم أقل أحقيةً بالحياة والكرامة. قد يكون المشهد الأكثر فجاعة لهذا التمييز مشهد صحافي قناة الجزيرة، وائل الدحدوح، الذي غطّى مقتل عائلته وصور الأكفان التي تحمل مسمّياتٍ لا تمتّ لأسمائنا بصلة: فخذٌ لهذه الضحية ورجل لأخرى.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.