الإتحاف القطري
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تأتي كلمة الإتحاف، غالباً، بمعنى الإطراب، مثل جاء فلان لإتحاف مسامعهم بقصيدة أو أغنية جيدة، أي جاء لإطرابهم. وهناك كلمة طربية ذات إيقاع لأحد المشجعين السوريين سمعته مباشرة من سوق واقف في الدوحة، من على شاشة الجزيرة الرياضية، في أثناء لقاء حي مع الجمهور بعد فوز السعودية على الأرجنتين، يقول: "لا شيء صعب على العرب في دوحة الطرب". كلّ من يكتب عن التفوّق القطري الآن لا يمكن وصفه بالمجامل أو المبالغ، إنما يعبر عما يشاهده وإن من بعيد. لم تتسنَّ لي فرصة زيارة قطر في حياتي، لكنّ ما أراه عن بعد من إنجازات، وتحديداً أخيراً في ما يتعلق بالتنظيم المتقن لفعاليات كأس العالم التي تجري بحماس متصاعد، يجعلني أكتب بتجرّد جمالي، مصدره تلك اللوحات البليغة للمونديال الذي أطلقت عليه قطر اسم مونديال العرب، وبذلك فإنّه يعنينا جميعاً، وكأنّه في أرضنا كلّنا.
بدايةً من حفل الافتتاح الذي كان رصيناً إلى الحد الذي يمكن اعتباره من كلاسيكيات الفنون البليغة، نظراً إلى لوحاته المفعمة بالإنسانية أولاً، وبالإبداع الفني ثانياً. التقاء الطفل غانم المفتاح من ذوي الهمم الذي ولد بنصف جسد، بالممثل العالمي الأسمر مورغان فريمان كان لوحة يصعب نسيانها. قبل ذلك، كانت لوحة عابرة لكنّها معبرة، حين قبّل أمير قطر، الشيخ تميم يد والده الشيخ حمد. لا ننسى كذلك الوصلات الغنائية المتنقلة بين الفنان القطري فهد الكبيسي والمغني الكوري الجنوبي إس جونغكوك، وكان النصيب الأكبر من الفقرات لصالح المغني الضيف. لوحات أخرى كذلك تدلّ على إمكانات التراث العربي اللانهائية في توليد الجمال. هناك أيضاً الإصغاء للبيئة والبحر والمياه ودوابّ الأرض. تتحد صور إنسانية متعدّدة في هذا الافتتاح كلاسيكي الطابع في رزانته.
الآن، وأنا في مسقط، تخترق أصوات معلّقي كأس العالم الرياضيين العرب سمعك أينما ولّيت واتجهت. ولأنّ كرة القدم جماعية، أحرص على ألّا أشاهدها وحيداً، وعادة ما أذهب إلى مطعم مفتوح في سوق الخوض، يقدّم الشاي والقهوة ونارجيلة الشيشة. هناك يجتمع عشرات من الأشقاء العرب، خصوصاً من مصر وتونس والمغرب، مع العُمانيين. لكن، حين يكون طرف إحدى المباريات منتخباً عربياً، تجد فجأة وكأنّ صوت التشجيع اتّحد. وكلّ هجمة عربية إلى ناحية الخصم يتبعها انفعال متصاعد من الجمهور ووقوف وتحسّر وضرب أكفّ إذا كانت الفرصة مهدورة، وتصفيق وهتاف وفرح إذا حقّق المنتخب العربي هدفاً. كما حدث مع فوز المنتخب السعودي على منتخب الأرجنتين. ما إن جاء هدف التعادل من السعودية حتى هبّ كلّ جالس في المقهى واقفاً، وهناك من يرفع قبضتيه ويهزّهما إعجاباً بالهدف الجميل، متمنّين أن يحافظ المنتخب السعودي على هذا الهدف، ويخرج متعادلاً مع المنتخب الأرجنتيني ذي الإنجازات الكروية التاريخية. لكنّ المفاجأة كانت أعلى من كلّ التوقعات، حين سجل السعوديون هدف الفوز. بدا حينها وكأنّ سحابة من الهرج والفرح غزت المقهى فجأة. وسرى رفع القبضات والتصفيق والهتاف إلى كلّ من في المكان الذي بدأ يغصّ بالجالسين والواقفين والمطلين من الخلف، بعدما امتلأت الكراسي جميعها.
لا بدّ أنّ الفرق العربية شعرت كأنّها تلعب في أرضها وبين أهلها وجمهورها. ولذلك جاءت معظم المباريات التي شاركت فيها المنتخبات العربية قوية ومتكافئة في الأداء مع خصومها، بل متجاوزة عقد الخوف من التاريخ الطويل للخصوم في الانتصارات والكؤوس، ومتحررة من الهالة المحيطة بهم، كما حدث مع مبارياتٍ لا يمكن أن تُنسى، وستظلّ ثابتة في ذاكرة الفرق والشعوب، وكان ميدانها الملاعب القطرية.
الحدث كبير ومتعدّد ولا بدّ من عودة للتذكير به، وقد تفوّقت قطر على كلّ التحدّيات، بما فيها الطقس والحجم الجغرافي، وسطّرت، بمحبرة التاريخ، تاريخاً جديداً لها. يقول جدّنا أبو الطيب المتنبّي في إحدى نبوءاته: هممٌ بلّغتْكمُ رُتباتٍ/ قصرت عن بلوغها الأوهام.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية