الأولمبياد بين الفنّ والرياضة والاقتصاد
تجاوزَ حفلُ افتتاح الألعاب الأولمبية في العاصمة الفرنسية، مساء 26 من الشهر الماضي (يوليو/ تمّوز)، الحدثَ نفسه، وغطّى عليه داخلياً وخارجياً أيّاما عدّة، وبدلاً من أن تكون الرياضة هي الموضوع، بدت النزعة الاحتفالية هي المنشودة. وباستثناء استعراض بواخر الوفود المشاركة في نهر السين، انتزعت مدينة باريس الاهتمام كلّه، بالنظر إلى ما حمله العرضُ من عناصر تعتمد على مسرحة تاريخها وإرثها السياسي والثقافي، وفق رؤية فنّية غير منقطعة عمّا عاشه هذا البلد في مستوى الأفكار والمفاهيم، وما شهده من ثورات متنوّعة سياسية وثقافية وفنّية، ومنها بالخصوص الثورة الفرنسية عام 1789، التي أنهت المَلَكية، وفصلت الدين عن الدولة، وما تلاها من أحداث أخرى ذات بُعدٍ محلّي وخارجي، ومنها ثورة الطلبة في عام 1968، التي شكّلت تحولاً سياسياً وثقافياً.
جاء العرض بجرعةٍ عاليةٍ من الجُرأة، أحدثت صدمةً لدى أوساط محلّية وخارجية، وأثارت ردّات فعلٍ سالبةٍ لدى جهات مُحافِظة دينياً في مستوى العالم ككلّ، وخاصّة فيما يتعلّق باللوحات التي تضمّنت إشاراتٍ صريحةً إلى الميول والهُويَّات الجنسية. وقد كانت المواقف مُتقاربةً في فرنسا وخارجها، في مستوى تأويل بعض الرموز التي اشتملها العرض بخصوص إعادة تمثيل قطع رأس آخر ملكات فرنسا ماري أنطوانيت، أو التوظيف المُشوّه والمُبتذَل، في نظر المُعترضين، للوحة العشاء الأخير للسيد المسيح، التي رسمها الفنان ليوناردو دافنشي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستنطاق الساخر للوحاتٍ فنّيةٍ مثل "الجيوكندا"، وأعمال روائية كـ"البؤساء" لفيكتور هوغو.
الفرجة هي أكثر ما ميّز العرض أهمّية، وقد كانت اللجنة المنظّمة واعيةً لذلك حين كلّفت مُخرِجاً مَسرحياً من أجل القيام بالمهمّة، وهي على دراية برؤيته للفنّ وللثقافة، وبمواقفه المُعلَنة من القضايا الإشكالية، التي حضرت بوضوح في العرض. وبعيداً من الحدث، فهي مسائل محلّ جدل في هذا البلد. ومردّ الاحتجاج على هذه النقطة أنّ الأوساط التي تقف في الجهة الأخرى رأت في إبرازها في مناسبة رسمية، ترويجاً لها من باب تطبيع المجتمع معها من جهة، ومن جهة أخرى ربطها بصورة فرنسا، في حين أنّها لا تحظى بالإجماع.
ليس هناك أيّ نيّة في الإساءة إلى الرموز الدينية، وإنّما نظرة مختلفة لها، وهذا أمر يقع في مجال رؤية الفنّ للرموز وفق منظور خارج الزمن، ومن منطلق حرّية الفن، التي لولاها لتمّ منع آلاف الأعمال المسرحية والسينمائية والكتب واللوحات، التي تتناول الدين والتاريخ والشخصيات الدينية والتاريخية. وتسمح حرّية الفنّ لمخرج العرض أنّ يرى الاحتفاء بالتسامح في هذه الصورة، وهو ليس الأول الذي يذهب به الخيال إلى تلك المساحة، التي تُعدُّ مثار خلاف. واللافت أنّ الأوساط التي تحرّكت ضدّ العرض في فرنسا من منطلق الدفاع عن الرموز الدينية، إنّما تكيل بمكيالين، فلم يسبق لأيّ منها أن اتخذ موقفاً ضدّ الرسومات الكاريكاتيرية، التي سَخِرَت من النبي محمّد، أو أدان الذين قاموا بإحراق نسخٍ من القرآن في السويد والدنمارك، وقد جرى النظر إلى تلك التصرّفات على أنّها من باب حرّية التعبير. ومهما يكن، فإنّ هذا التفسير ينطبق على عرض مسرحي أو فيلم، ومن الصعب اسقاطه على حدث يُعبّر كلَّ تفصيل فيه عن موقف ورؤية البلد ككلّ. وفي نهاية المطاف، إنّ ما غاب عن النقاش هو البذخ المُفرط ومظاهر الأبّهة والمصاريف العالية، التي كلّفت البلدَ قرابة ستّة مليارات يورو، في وقت يعاني فيه من أزمة اقتصادية ومديونية عالية بلغت 11% من الناتج المحلّي الخام. ورغم أنّ الرياضة فعل إنساني، فإنّ الحفل بدا بعيداً ممّا يحدث في العالم؛ حربٌ في أوكرانيا تهدد أمن أوروبا، وأخرى في غزّة، وأزمات تعصف بأفريقيا.