الأسرة المصرية في مرمى النيران

04 سبتمبر 2022

(عبد الهادي الجزار)

+ الخط -

حرب شعواء تخوضها نخب نسوية منفصلة تماماً عن الواقع في خندق واحد مع عمائم أزهرية تطوع الفتوى لضغوط نسوية وسلطوية سطحية محلية ودولية من دون إدراك أنّ مثل هذا الفعل، باجترار الفقه من واقع إلى واقع، يكاد يكون مغايراً تماماً من دون مراعاة السياق، وبالذات المتعلق بالظروف الاقتصادية والاجتماعية للمصريين الذين يعيش قرابة ثلثيهم تحت خط الفقر أو على حافّته، ولا يستطيعون الاستغناء عن عمل المرأة أو تحمّل تعطل الرجل في ظروف اقتصادية واجتماعية غاية في السوء، هذا الفعل وتلك التصريحات الشعواء التي تقول إنّ الرجل أو المرأة غير ملزمين شرعاً بكذا وكذا، في ادّعاءات مقتضبة، إنما تجعل الشرع في تضاد بل وتناقض مع المجتمع والواقع. وحاشا للشرع ومقاصده وقيمه التي تحفّ علاقات الزواج بقيم المودّة والرحمة والسكن والإحسان والمعروف.

المشكلة الكبرى أنّ هذه الهجمة الكبيرة على الأسرة، وتحديداً على الرجال، تأتي في ظلّ عزوف كبير عن الزواج يظهر في الأرقام الرسمية التي تشير إلى ارتفاع متوسّط سن الزواج إلى أكثر من 28 عاماً، وأنّ عدد حالات الطلاق زاد في عام 2021 فقط بأكثر من 14%، بينما زاد عدد حالات الزواج الجديد بمعدل نصف في المائة فقط. وإذا كان الاتجاه العام، وفقاً للتحليلات الاقتصادية والاجتماعية، متوقعاً أن تنخفض حالات الزواج الجديدة وتتزايد المشكلات الزوجية بسبب تلك الظروف الصعبة التي يمرّ بها الزوجان، فإنّ ارتفاعه بهذه المعدلات في عام واحد يعد مؤشّراً غير طبيعي وغير مفهوم إلّا في إطار الهجمات النسوية التحريضية المنظمة على الرجال واتهامهم زوراً بالنطاعة والامتناع عن الإنفاق، وهو ما تنفيه البيانات الرسمية نفسها، التي توضح أنّ 16% من الأسر فقط تنفق عليها سيدات، ويغلب عليها إما أن تكون المرأة أرملة أو مطلقة أو لدى زوجها إعاقة. تضاف إلى ذلك عشرات البرامج التلفزيونية ومئات المنشورات لمشاهير على مواقع التواصل تحضّ على الانفصال، وتحرّض على الأزواج وتدعو إلى الاستقلال الزائف.

ينتقل هذا الخطاب إذاً من وهم الـ"سترونغ إندبندنت" ومن وهم أشد فداحة واغتراباً عن مركب الشرق وقيمه واقتصاده واجتماعه، إلى وهم جديد، هو وهم الـ"سترونغ إندبندنت سينغل ماذر" الذي يريدون تمديده ليشمل المطلقات، لأنّهم يرون الوصف مشيناً، ويريدون محو هذا الوصف، بل الانتقال إلى ترويج حفلات الطلاق، باعتبارها علامة قوة وتفاخر ومحاولة لقهر الطرف الآخر. وتتجاهل هذه الهجمة الشرسة على الأسرة واقع أنّ ملايين المصريين الذين يذهبون للعمل في الخارج، وأغلبيتهم الساحقة من الرجال، إنما يحرمون أنفسهم كلّ شيء، في سبيل تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأسرهم، سواء النووية أو الممتدّة، ويتجاهل أيضاً حقائق كبرى عن بطالة السيدات، التي يفرزها النظام الاقتصادي السائد، الذي لا يستوعب الخرّيجين الجدد، ويفرز بطالة مرتفعة جداً في صفوف النساء.

مقولات ودعوات تجعل الشرع في تضاد بل وتناقض مع المجتمع والواقع، وهو أبعد ما يكون عن ذلك

يشجّع خطاب نسوي وديني سطحي أيضاً على الاستقلال بالأسر النووية عن الأسر الكبيرة بما يعنيه ذلك من كلفة لن تتحمّلها الغالبية العظمى للشباب تحت الأربعين، إذ من دون مساعدة العائلة الممتدة في توفير مسكن الزوجية أو أرض للبناء عليها، أو حتى توفير قيمة فيزا السفر إلى الخارج بالنسبة إلى أغلب الشباب، فلن يستطيع هؤلاء شراء منزل، ولا حتى تأثيثه، ناهيك عن تحمّل كلفة حضانة كانت توفرها العائلات الممتدّة، فيما سيضطر هؤلاء المنبوذون في علب الكرتون المسمّاة شققاً إلى إرسال أبنائهم إلى حضانات ودور رعاية أطفال، غاية في السوء ومرتفعة الكلفة، بل وتقطع اليوم إلى فترتين، وفي معظمها تزيد تكلفتها على الحد الأدنى للأجور الذي يتقاضاه أيٌّ من الزوجين صغيري السن.

وبدلاً من مناقشة ظروف العمل السيئة لكلّ المصريين، رجالاً ونساءً، وابتعاد مصر عن أية مؤشّرات لتوفير العمل اللائق للجميع، يختار هذا الخطاب المتهافت معارك سطحية، من قبيل حق المرأة في أجرة رضاعة يدفعها لها زوجها، بينما لا يستطيع المجلس القومي للمرأة، ولا عضواته الشهيرات، ولا مشايخ السوء، توجيه أي نقد حقيقي للسلطة التي تضاعفت في عهدها أسعار اللبن (الحليب) الصناعي عدة مرات، وشهدنا عدة أزمات غير مسبوقة فيه على مدار العقد الماضي. ولا يستطيع هؤلاء المطالبة بما كان يهتف به الشارع منذ عقود، وهو مطلب عادل، تحت شعار "أجر عامل يكفي ليوم كامل" بل لا تستطيع هؤلاء النسويات وأولئك المشايخ وبعض الإعلاميين مطالبة السلطة علناً بتوفير حضانات كافية لجميع الأطفال تحت السن المدرسية، ولا إلزام الدولة والقطاع الخاص بأن يوفّر للسيدات حضانات تتناسب مع مواعيد العمل، أو يعطيهن بدلاً من هذا الحق، وهو حق قائم في معظم البلدان التي كان لديها نضال نسوي حقيقي، بعيداً عن صياح التيار النسوي المصري الذي تقوده مجموعة من السطحيات من أبواق السلطة، التي لن تطالبها هذه الأصوات بتمكين المرأة من الحصول على ميراثها الشرعي، بينما ستطرح علينا المساواة في الميراث، بل لن تقدّم دعماً قانونياً حقيقياً للسيدات المطالبات بحقوقهن في الثروة في مجتمع لا تحصل غالبية نسائه على مواريثهن الشرعية، لكنّها تحتفي بسيدة ترقص في أحد المراكب الشراعية.

لو كان لدى هؤلاء النسويات والمشايخ عقل ووقت لقراءة تقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن الأسرة والدخل والإنفاق والاستهلاك، ويدركون الوضع الحالي للشباب الذين يعانون بطالة هي ضمن الأعلى في العالم بمعدل إجمالي 31.1%، وهي أعلى من ذلك لدى الشابات، وأنّ معدل العمالة غير الرسمية بين الشباب في مصر 90%، وفقاً لتقرير التنمية الإنسانية العربية للعام الماضي، لربما سكتوا عن مثل هذا التحريض، ولأراحوا واستراحوا، لكنّ هؤلاء لا يمكنهم السكوت. ببساطةٍ، لأنّهم يقتاتون على التريندات وعلى الشهرة وما تدفعه الفضائيات والقائمون عليها لإيجاد مثل هذه الحالات التي تزيد من السخط العام ولا تستطيع إلهاء الناس إلّا مؤقتاً عن السياسة والاقتصاد إلى الاجتماع والصراع في نطاق الأسرة.

من دون تحسين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين لن تستقر الأسرة ولا الدولة ولا المجتمع

وعلى الناحية الأخرى، هناك متصلبون ما زالوا يبثّون خطاباً بحرمان المرأة حق العمل، في انفصال عن مثل هذا السياق الذي تظل فيه الأسر حتى بعد عمل المرأة ومساهمتها في الإنفاق، تحت وطأة الفقر وضربات التضخّم وانهيار الأجور الحقيقية للمصريين، إذ لم يعد عمل أي من الطرفين أو بطالته اختياراً بقدر ما هم المصريون جميعاً أقرب إلى العبيد في ماكينة رأسمالية لا تنتج شروطاً جيدة للعيش الكريم، ولا تجعل العمل أو تركه خياراً، لا للرجل ولا للمرأة التي تستبعدها بنيوياً رأسمالية الكسب السريع التي لا تعترف بالعطل، وتحتاج كلّ لحظة عمل وعمالة رخيصة من دون حقوق لتعظيم أرباحها، فتكون المرأة مستبعدةً لأنّها ستحتاج لإجازات وضع لم يسمح السياق المصري بأن تزيد على أربعة أشهر، وستحتاج إجازات مرضية كثيرة، وكذلك لرعاية الطفل، ولساعة رضاعة يومياً، وهي حقوق بديهية.

لنترك الأسرة المصرية، إذاً، في حالها من دون تحريض، أو لنتحدث بموضوعية عن شروط إقامة حياة أسرية قائمة على الشراكة والتناسب بين الحقوق والواجبات، من دون مبالغة في التكاليف، ولنتفرّغ لمعارك حقيقية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، التي تتدهور يوماً بعد يوم، ما يزيد من حالات الطلاق، وبالذات بين المتزوجين الجدد، ويؤدي إلى إحجام أكبر عن الزواج، لأنّه من دون تحسين تلك الحقوق لن تستقر الأسرة ولا الدولة ولا المجتمع، ولن ينفتح المجال السياسي، وسيظل المصريون في مهاتراتٍ كلاميةٍ لا طائل من ورائها سوى مزيد من الخراب.