الأسدُ المهرّج وضحكاته العجيب
من وجهة نظرٍ فلسفية تتناول ذهنية بشار الأسد باعتبارها انحرافاً عمّا هو صالح ومعياريّ في الدول المتحضرة، يصحّ الجزم بأنّ حاله البائسة لا تقع ضمن حقل البحث الأكاديمي بمقدار ما تندرج في مواضع تقييم مدى شذوذه النفسي والأخلاقي، لأنه، ببساطة، حاكم ديماغوجيّ متلاعب يمارس فنّ "اللامبالاة السياسية" المجلّل بلمسات الهزل النسبية، كنوع من المُنزلقات التعبيرية التي قد تحمل اعترافاً ضمنياً بالانهيار، وهذا لا ينبغي أن يُضلّلنا عن حقيقة تهرّبه من أي مُساءلاتٍ أخلاقيةٍ تفضح مدى تورّطه في مستنقع الخطايا والأخطاء. في السياق، نُقل عن الرئيس السوري الأسبق، أمين الحافظ، إحدى ظرافاته، وهي خطته لتحرير فلسطين في أيّام فقط، كان يقولها ويضحك، ليس من باب التهريج، بالتأكيد، ولا الجهل المزري باللغة والتاريخ والسياسة. وكان حافظ الأسد يحرص على مشاهدة مسرحيات دريد لحام، ويغرق بالضحك، لاطمئنانه أنّ سياساته تحقق الهدف تماماً، إذ ثمّة فارق هائل بين أن يتشارك الديكتاتور وشعبه جرعات "المسكنات الكوميدية" كي لا تنقطع شعرة الوصل بينهما، وبين أن يتحوّل الطاغية نفسه إلى مهرّجٍ يُغرق الشعب في نوباتٍ من الضحك الهيستيري: يسخرون من لثغاته وحماقاته، ويتفنّون في إخراج الفيديوهات المضحكة عقب لقاءاته "التاريخية". مثل هذا التمهيد، على اقتضابه واختزاله، يرمي إلى تناول بشّار الأسد مثالاً عن ظاهرة "الطاغية المهرّج" في بعدها الماهوي الانتقاصي البغيض، ما يعطينا خيوطاً جديدة لاستيعاب الأزمات السورية من منظور الدوافع العميقة الكامنة وراء هذه الشخصية التي يغلب عليها الحضور المسرحي وتنوّع الأزياء الدموية وتلوّن الضحكات "العبيطة". ولا بدّ من التنبّه إلى أنّ ردود الأسد غالباً ما تكون فكاهية شاذّة عندما يشعر بضغوط عاطفية إذا ما تعلّق الأمر بضحاياه، لتفوح من قهقهاته رائحة الجثث المتفسّخة وعفونة المعتقلات، وبينما يتداول السوريون تلك الصور والفيديوهات "الهزلية" لعلّهم يخففون من آلامهم يتساءلون بشيء من الريبة: كيف تحوّل القائد "المؤلّه" الى "مهرّج" مُدان؟
تاريخياً، لطالما استوعبت الديكتاتوريات "الرشيدة" أهمية ثقافة السخرية وشجعت على تعميمها من قمة الهرم إلى القاعدة وليس العكس، في المقابل يبدو أنّ الكاريزما التهريجية لبعض الحكام "السُذّج" انعكاسٌ صريحٌ لذهنيةٍ متطرفة من القمامة الأخلاقية الفاخرة التي تحقق نصراً موسوماً بالابتذال والقرف. وفي الحقيقة، هناك مدخلٌ مهم لا يمكن إغفاله للتأكيد على الأمر، وهي مقابلة تلفزيونية مع شبكة سولوفيوف التلفزيونية الروسية أجراها بشار الأسد منذ أيام، وخلالها سأله الصحافي، على سبيل المزاح وربما التورّط، عن رأيه في ما سيتصرّف الرئيس الروسي في مواجهة العقوبات الغربية انطلاقاً من خبرته الشخصية، عندها أجاب الضيف مقهقهاً: "ربما يكون لقائي المقبل مع الرئيس بوتين لكي نناقش فيه ماذا نفعل بأرصدتنا في المصارف الأميركية. الغرب مضحك وغبي أحياناً". لا شيء يدعو إلى العجب من أجوبته الهزلية المُفجعة، التي لا تستفزّ فقط خصومه السياسيين، بل مشاعر شعب بأكمله يعلّق عليه آمالاً كبيرة. وهنا، لسنا معنيين بوضع مساطر تقييم معدّة سلفاً وفق أيديولوجية أو موقف فكري مسبق، إذ يكفي، لتتضح الكارثة السورية، مراقبة الأسد يزور أنقاض المدن المنكوبة يلتقط "السيلفي"، ويتلقّى الزغاريد بابتسامةٍ راضية، وكأنّ هذا الخراب مجرّد مجسّماتٍ مشبوهة، بينما ثمّة صراخ مرير تحت ركام القهر يضيع وسط ضحكة الأسد المجلجلة ليُختصر في مشهد جنائزي تاريخ (مملكة الرعب).
يكفي، لتتضح الكارثة السورية، مراقبة الأسد يزور أنقاض المدن المنكوبة يلتقط "السيلفي"، ويتلقّى الزغاريد بابتسامةٍ راضية
"في المزاح كثيرٌ من الحقائق" يقول الروائي المصري نجيب محفوظ، وفي تهريج الأسد ثلّة من المعطيات التي تعرّي شخصية بارانوية ملوثة بسمات سايكوباتية ونرجسية، وأول ما يُستَهل به في سلسلة نقائصها أنها تبالغ كثيراً في تقدير ذاتها وقدراتها، ولديها شعورٌ بالعظمة والتفرّد تتمثل في مسلاخ مثقف مُصلح، أو زعيم ذي مهمّة ربّانية أو تكاد. بالتساوق مع ما تقدّم، يعتقد الباحث في علم النفس التحليلي، مانفريد كيت دو فري، أنّ دافع المرء لأنْ يصبح قائداً هو الرغبة في التعويض عن فراغٍ عاطفي سابق، وهذا يأخُذنا بالضرورة إلى طرح رؤيةٍ موازية مفادها: الدافع الوحيد الذي يجعل من الأسد حاكماً "هزلياً"، يقهقه ويلقي النكات حين ينبغي له أن يكون جادّاً وصارماً، هو رغبته المبطّنة في التغطية على مستنقع الجرائم، الذي كلما تمرغ به أكثر كلما صارت حاجته للتهريج أكثر مساساً من باب ممارسة النكاية السياسية الاستعراضية في أسوأ نماذجها مراهقة وابتذالاً. فهو، قطعاً، الحاكم الوحيد في هذا الكون الفسيح الذي ترافقه ضحكه إلى مواقع جرائمه: عندما يذهب إلى داريّا، المدمّرة ليأكل عنبها المعمّد بالدم، وإلى السويداء ليُهدي أهالي ضحاياه ساعة حائط، وإلى الساحل السوري المُعدم ليوزّع قصاصات تغصّ بكلام شعري مجاني عن ضرورة الصمود بعد حرق الأراضي والأرزاق...
لدى شخصية بشار الأسد شعورٌ بالعظمة والتفرّد يتمثل في مسلاخ مثقف مُصلح، أو زعيم ذي مهمّة ربّانية أو تكاد
في زمن مضى حدّد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو مفهوم السخافة السياسية، واعتبرها تمثّل القوة عندما تستدعي السلطة اتخاذ أكثر الأشكال تفاهة وشناعة، خاصة عندما تكون في يد شخص غير مؤهل. وفي الحالة السورية يمثّل تهريجُ بشار الأسد نبضَ سلطته المهيمنة "الجبانة"، وفنّاً هابطاً من فنون كرنفالاته السياسية الفاسدة، مع هذا يحاول إقناع العالم بأنه قابل للتدوير، ويفوته أنّ "الهرج والمرج" السياسي عجينةُ الضعفاء المهروسين بالسذاجة، المخبولين بالتلقين العقائدي الفاقدي السيطرة. هو ينتشي للأضواء الساطعة عندما يكون في مركز الانتباه، يلعب على حبال الكلام ويضحك ملء شدقيه حتى تَبينَ نفسه العاجزة، وهو ما أطلقت عليه مارغريت تاتشر "أوكسجين الدعاية"، وبدونه يشعر كلّ طاغية بالاختناق. ومن مبدأ "الاستسهال يليه الاستهبال" حيث العنف اللفظي يتأتّى عن شعورٍ خادع بالجبروت والسيطرة، وعلى غرار بعض الحكّام "المهرجين" الذين يتبادلون الشتائم والألفاظ النابية التي تنتهك الأعراف الدبلوماسية، يصف الأسد الرؤساء الأميركيين بالمديرين التنفيذيين والرؤساء الأوروبيين بالمديرين الفرعيين ينفّذون ما يريده المدير الأكبر، كما ينعت الشعوب الغربية بالسذاجة والجهل. والأخطر من هذا التعسّف السياسي المبنيّ على نظرةٍ شوفينية متعصّبة، وللمفارقة، سخريته من العقوبات التي فرضها عليه الرئيس الأوكراني معتبراً أنّ "العالم يحتاج أحياناً إلى مثل هؤلاء المهرّجين، (يقصد زيلينسكي)، حتى ينزع فتيل الموقف، ويجعلنا نضحك قليلاً!"، وفق تعبيره.
من ديكتاتور ماركيز في "خريف البطريرك"، إلى الرواية الرمزية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، ثم رائعة "حفلة التيس" للكاتب ماريو فارغاس يوسا، تتعدّد الرؤى وتختلف المقاربات، لكن ما يجمعها بشخصية بشار الأسد حاكم "جمهورية الرعب السورية" تلك الحقيقة الموسومة على جبين الطغاة وهي أنّ "السياسةَ فنُّ شقّ الطريق بين الجثث"، أيضاً عالم يطغى عليه الفساد، الابتزاز، الاغتيالات، وتعطّش مرضي للسلطة التي تحوّل العزلة الى كبت، والجرائم إلى قهقهاتٍ مستفزّة والمجازر إلى دعاباتٍ أليمة. وهنا لا نلبث بدورنا أن نسوق سؤالاً ساخراً: كيف للدكتاتور أن يجلس لسنوات طويلة على كرسي واحدٍ دون أن يتخشب، بينما يشهد تحوّلات تدمّر أسطورته المقدّسة التي جعلت منه إلهاً ثم سرعان ما حوّلته إلى مهرّج منبوذ؟. ما يدفعنا صوب التأمّل الذاتي حول عالم الدكتاتور الذي يعيش في سجنه، يقهقه كلما أحس بالضعف والخوف، ليثبت أنّ التهريج ليس سوى تجلٍّ لحالة القطيعة الشاملة التي أنجزها الدكتاتور مع شعبه.