الأردن في مواجهة المؤامرة الواقعية والوهمية
لم تأخذ ردود الفعل لدى النخبة الأردنية اتجاهاً منسجماً أو متناغماً تجاه مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، فهنالك من يشكّك في كل النيات الرسمية وجدّية المضيّ في الإصلاح، وهنالك من يرفض ما توصلت إليه اللجنة، بوصفه أقلّ بكثير من المطلوب تحقيقه للوصول إلى الديمقراطية المنشودة، وهنالك من يرى أنّ الإصلاح الديمقراطي، الذي يقوم على العمل الحزبي، غير ممكن في الأردن، بدعوى أنّ الأحزاب السياسية لن تجد لها تربةً خصبةً في المجاميع العشائرية.
ذلك كله مفهوم، وضمن نطاق الاختلاف الطبيعي في الآراء، لكن نظرية المؤامرة ما تزال تحظى برواج وقبول كبيرين في أوساط النخب السياسية، كالقول إنّ مخرجات اللجنة الملكية تمهّد للوطن البديل والتوطين وإلغاء الهوية الوطنية الأردنية، وما مصطلح الهوية الوطنية الجامعة إلاّ جزء من هذه المؤامرة التي تريد إحلال الأحزاب السياسية مكان العشائر في بنية النظام السياسي!
ثمّة مشروع صهيوني مرتبط وجودياً بأن تكون الأردن هي فلسطين، ليتمكّن الإسرائيليون من السيطرة على فلسطين كاملة
كلما طُرح موضوع الإصلاح الديمقراطي رُفعت فزّاعة "الوطن البديل"، واستُخدمت قضية الهوية لتأجيج الهواجس وتفعيل خطاب المظلوميات التاريخية والسياسية، ما يضعنا أمام معضلة حقيقية؛ فيما يتعلّق بالسؤال الأكثر أهمية: ماذا نريد؟ وما هو الإصلاح المنشود؟ إذا كنا نخشى من قانون الانتخاب ومن العمل الحزبي ومن المواطنة والحكومات الحزبية، فعن أي إصلاح نتحدّث؟ وأخصّ بالذكر هنا النخب التي تتحدّث دوماً عن الإصلاح والديمقراطية، لكنّها ترفض العمل الحزبي والتعديل على قانون الانتخاب، وتتخوّف من الحديث عن الدولة المدنية والمواطنة وسيادة القانون!
لا ننكر أنّ هنالك مخاوف مشروعة، وأنّه بالضرورة ثمّة مشروع صهيوني مرتبط وجودياً بأن تكون الأردن هي فلسطين، ليتمكّن الإسرائيليون من السيطرة على فلسطين كاملة، وإذا لم يكن بالإمكان تحقيق ذلك كاملاً على المدى القريب، فعلى المدى البعيد، وعبر إلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية. .. تمام، ذلك أصبح من المعلوم بالسياسة من الضرورة، ومن المهم أن نتحوّط بما يحمي الهويتين الأردنية والفلسطينية، والتأكيد على الحقوق الفلسطينية في فلسطين، ومن الضروري أن تكون هنالك رؤية أردنية - فلسطينية (بمعنى تشمل القوى السياسية الفلسطينية؛ حركتي فتح وحماس، الآخرين) مشتركة واضحة للمصلحة الأردنية والفلسطينية، ولكيفية التعامل مع مصادر التهديد الإسرائيلية.
إذا كنا لا نريد حلّ القضية الفلسطينية على حساب الأردن (المؤامرة الحقيقية) فذلك لا يعني أن نقف ضد الدولة المدنية والمواطنة ودولة القانون (المؤامرة الوهمية)
في مقابل تلك الهواجس والمؤامرة الحقيقية، لا يجوز أن نسقط في مصيدة مؤامراتٍ وهميةٍ تؤدّي إلى تأخير أي إصلاح ديمقراطي، أو تنتهي إلى تحقيق المؤامرة الحقيقية، عبر إضعاف الداخل الأردني من بوابة الهويات المتوقعة الفرعية التي تأخذ موقفاً رافضاً من التحديث والتطوير والتمدين والعمل الحزبي، بذريعة الخوف من الوطن البديل، لكنّ المهمة الحقيقية لهذه الفزّاعات هي حماية مصالح أقلية وإضعاف مشروع الإصلاح والتطوير الوطني، فإذا كنا لا نريد حلّ القضية الفلسطينية على حساب الأردن (المؤامرة الحقيقية) فذلك لا يعني أن نقف ضد الدولة المدنية والمواطنة ودولة القانون والعمل الحزبي والتغيير السياسي (المؤامرة الوهمية).
في ضوء ذلك كلّه، تعالوا إلى كلمة سواء، أيها الأردنيون، ودعونا نتفق على الحدّ الأدنى التوافقي في المشروع الإصلاحي المنشود لتطوير المنظومة السياسية، كي لا تكون هنالك مبرّرات أو هواجس غير منطقية، أو قراءة مغلوطة لتوصيات اللجنة الملكية ومخرجاتها، وتحميل بعض المصطلحات حمولاتٍ لم تكن مقصودة عندما تم كتابة الوثيقة الختامية.
في البداية، دعونا نتفق على أنّ هنالك أزمة سياسية داخلية كبيرة، ما يقتضي تجديد قواعد اللعبة السياسية، وتوسيع حدودها، لتكون قادرةً على استيعاب التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولتكلّس الآليات الحالية في إدارة الحياة السياسية وعملية تشكيل الحكومات، فالحل إذاً يكمن في تطوير منظومة الحياة السياسية لتشكيل الحكومات على أساس الأغلبية النيابية الحقيقية، المبنية على حزب الأكثرية، وهو أمرٌ يردّ الاعتبار لموقع رئيس الوزراء، ويردم الفجوة المتنامية الكبيرة بين المؤسسات السياسية (الحكومة ومجلس النواب) والشارع، ويوفر فرصة وجود حكوماتٍ مرتبطةٍ ببرامج وسياسات وهويات واضحة. وهذا وذاك مرتبط بترتيب البيئة السياسية، عبر تعزيز شروط تطوير الأحزاب، ومنحها الفرصة لبناء استراتيجياتها وأدواتها واستقطاب جيل الشباب والنساء، وهي الشرائح التي تستطيع منح الأحزاب القوة المجتمعية المطلوبة.
الأحزاب كائنٌ سياسيٌّ يعكس تجمّع الناس حول فكر وبرامج وتصورات سياسية معينة، بينما العشائر كياناتٌ مجتمعيةٌ تربط الناس على أساس الدم وعلاقات القرابة
من المفترض أن مثل هذا السيناريو بديهي في أي عملية تحول ديمقراطي منشودة في أي دولة، فمن المفترض أن نتفق جميعاً على ذلك، وليس من المنطقي أن نخلق حالة من التناقض أو الإحلال والإبدال بين العمل الحزبي والعشائر؛ فالأحزاب كائنٌ سياسيٌّ يعكس تجمّع الناس حول فكر وبرامج وتصورات سياسية معينة، بينما العشائر كياناتٌ مجتمعيةٌ تربط الناس على أساس الدم وعلاقات القرابة. ولا يعني التوجّه إلى الأحزاب أنّ هنالك توجهاً ضد العشائر، ولكن، في الوقت نفسه، لا تُبنى العلاقة بين المواطن والدولة على أساس عشيرته أو دينه أو عرقه، بل على أساسٍ واضحٍ من سيادة القانون ومفهوم المواطنة، والاعتراف بالتعدّدية السياسية والثقافية والمجتمعية، والشفافية والمساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد.
تلك هي الحدود الدنيا التي يمكن التوافق عليها بين جميع المواطنين وتوحيدهم، لأنّ في ذلك مصلحتهم، وفيه أيضاً الخير المشترك العام للمجتمع. وما سبق يدفع إلى مخاوف "التوطين السياسي" أو الخشية من وجود "أجندة" لتحقيق ذلك، وهو أمرٌ يمكن معالجته عبر الاتفاق على أنّ كل من يحمل الرقم الوطني هو أردني، كامل الدسم، وأنه لا يجوز منح أيٍّ كان رقماً وطنياً إلا بنص قانوني. وإذا كانت هنالك محدّدات ترتبط بهوية البرلمان وبعض المؤسسات، فيمكن الاتفاق عليها بين الجميع، بما يخدم مصلحة الوطن والأردن والفلسطينيين ومواجهة دعاوى الإسرائيليين.
في الخلاصة؛ الإصلاح هو شرط الدخول إلى المستقبل، والتوافق مفتاحٌ رئيسي، وتطوير الحياة الحزبية يقوّي الجبهة الداخلية، ويعزّز قوة الأردن في الوقوف في وجه أي مخطّطات. أما تأجيج مخاوف الهويات وممانعة الإصلاح، فهو يخدم نخبا لا ترغب في الإصلاح، ويؤذي الأردن ويشتّت المجتمع ويمزّقه!