الأدب وتوثيق المذبحة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
من الممكن طرح سؤالٍ يتعلق بمقدرة الأدب على إطالة حديث المذابح غير المسبوقة، والتي يقوم بها الصهاينة فوق رؤوس الأبرياء المعزولين في قطاع غزّة المحاصرة أمام أنظار العالم المتحضر، وأمام أنظار أبناء جلدتهم من العرب والمسلمين. أيّ نوع من الأدب يستطيع أن يوثق ذلك ويضمن ديمومته؟ مخيلة الأديب الفلسطيني، وبعده العربي، تمتلك خاصيّتها البلاغية في إنتاج أدب توليدي لا يمحوه الزمن، يبقى شاهدا أزليا على ما فعله المعتدي بجبروت قوّته على أجساد الأبرياء، ووصمة عار إنسانية راسخة في جبينه. فعل ذلك من قبل غسان كنفاني، (وبعده أدباء فلسطينون كثيرون، شعرا وسردا) في عدد من رواياته التي تمتاز بالسلاسة والقصر والكثافة، مثل رواية "عائد إلى حيفا" التي تطبعها مسحة من السخرية المرّة، و"رجال في الشمس" التي ما زالت تقرأ وثيقة جمالية خالدة شاهدةً على مرارة التشرّد واللجوء الفلسطيني. يمكن أن نضيف كذلك رواية "أم سعد" التي تسرد صفحة عابرة من حياة أم سعد، الفلسطينية الكادحة التي تعمل في مخيم للمطرودين من أرضهم، تحلُم بالرجوع وتكافح مرارة العمل في مهن شاقّة بالمخيم، انقصم فيه ظهرها. رواية سكب فيها غسّان بلاغته ورمزيّته العالية، تلخّصها مجموعة من الجمل من قبيل "أم سعد تلد وفلسطين تأخذ".
بذل الشاعر عبد اللطيف اللعبي، في كتابه المشترك مع عدنان ياسين، "أن تكون فلسطينيا" (دار المتوسط، ميلانو، 2022) جهدا في تعريف القراء بشعراء نرى معظمهم مترجمين لأول مرّة، ولكن يفاجئنا بقدراته الجمالية وصوره الشعرية. تدور معظم أجواء القصائد بين الذات والأرض والحلم والضياع في الشتات، تعكسها تفاصيل حميمية صغيرة، تعكس أبعادا مختلفة للمأساة. ما يبرر ما نشهده حاليا من صمود وعناد للمقاومين العزّل في تحمّل مسلسل الموت المرير، ورفضهم الهجرة من موطنهم تحت أي دواع، وكأن الموت صار مقابلا للوطن، عوض أن تكون الحياة مقابله. كتب اللعبي في مقدمته العميقة: "يكفي أن ينطق اسم فلسطين: التاريخ، الأرض، البلد، الشعب، عدالة القضية، الكفاح من أجل الحياة، والآن الكفاح من أجل البقاء، ليحضر الشعر كضيف من تلقاء نفسه".
لم يكن عبد اللطيف اللعبي المقيم في فرنسا ضمن الأدباء العرب الذين فقدناهم، أقول فقدناهم حتى وإن كانوا أحياء، ولا بد أن كل ما سيكتبونه بعد الآن لن يلاقي كل ما كان يلاقيه من سحر خادع وإقبال جماهيري، وفي مقدمة هؤلاء الأدباء الذين فقدناهم، وما زالوا أحياء، الروائيان المغربي الطاهر بن جلون والجزائري ياسمينة خضرة، اللذان، حتى بعد أن شاهدا كل هذه السلسلة المرعبة من المذابح، لم يغيّرا رأييهما وما كتباه، عندما ساويا فيه بين الجلاد والضحية، وبرّرا للجلاد فعلته، ولم يجدا أدنى عُذر للضحية المحاصرة، ولم يبن عليهما بعد ذلك أي تأثّر بما حدث من قصف مميت ومقتل آلاف الأطفال الأبرياء. أضيف هنا موقفا جميلا للشاعر المغربي، طه ياسين، المقيم في بلجيكا، في حوار معه في إذاعة مونت كارلو، أبان فيه عن مضمرات مهمة، من أبرزها كتمان الصوت العربي للتعبير عن المأساة في بلدانٍ كنّا نتوهم أن حرية التعبير فيها مكفولة، فإذا هي بين قوسين حديديين، كبوابتين لا تفتحان إلا بمزاج الرقيب.
لا بد أن الأدب العربي يزخر بنصوص إبداعية عديدة، شعرا وسردا، تتمثّل الألم الفلسطيني، لم تعلن عن نفسها بعد، فالأدب فعل تأمل، وولادته تخضع للتخمر والزمن، كما عليه على سبيل المثال رواية إلياس خوري "باب الشمس".
اجتهد كاتب هذه السطور في جمع نصوص أدبية، ومقالاتٍ لكتّاب عُمانيين ذات طابع أدبي كتبت في أزمنة مختلفة، ومنها كتاب حمل عنوان "خديجة لا تُغلقي الباب" الذي يعود إلى مقطع شعري لمحمود درويش، ضمن قصيدته الأرض "خديجة لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب". بدأت بالشاعر عبدالله الطائي الذي توفي في سبعينيّات القرن الماضي، وانتهاء بكتاب وشعراء ينتسبون إلى الألفية الثالية وما قبلها. وكان الجانب التجميعي في الموضوع هو الأصعب، والمتعلق بمخاطبة عددٍ هائلٍ من الكتّاب باتصالاتٍ، ليس الجميع لديه نصوص عن فلسطين، ولكن كيف لي أن أعرف إذا لم أسألهم، وأسأل أبناءهم أو أحفادهم إن كانوا رحلوا عن دنيانا.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية