15 نوفمبر 2024
الأخلاق أم التربية الدينية؟
يخوض فلاسفة النظام الحاكم في مصر، والأساطين في إعلامه ومؤسساته، في نقاش عريض بشأن ما يستطيبون تسميته "تجديد الخطاب الديني". وأحيانا، يثرثر في نوبات هذا النقاش عبد الفتاح السيسي نفسه، وتُستهلك ساعاتٌ فائضةٌ في التلفزات المصرية في بثّ المواعظ والمقترحات بشأن ما يسمّونها رؤىً وأفكارا من أجل أن يتجدّد "الخطاب الديني" في مصر، وذلك كله لمواجهة التطرّف والتعصّب، وحماية المصريين من الإرهابيين والمتطرّفين. وبديهيّة البديهيات التي يتم التأكيد عليها هنا أن مصر، ومعها كل الدول العربية ربما، في حاجةٍ قائمةٍ إلى تعظيم قيم الوسطية والاعتدال والسماحة في الخطاب الديني، والبعد عن الغلوّ والشطط والتكفير، وكل ما من شأنه أخذ البلاد والعباد إلى مواطن التشدّد والتعصب والانغلاق، وما قد ييسّر للإرهاب وجرائمه حواضن وبيئاتٍ في المجتمعات العربية، غير أنه يحسُن تأكيد هذه البديهية بالتوازي مع تأكيد بديهيةٍ أخرى، موجزُها أن السلطة الحاكمة في مصر، بسوْءاتها ومخازيها التي نعرف، ليست هي المؤهلة لاجتراح تجديدٍ حقيقيٍّ في الخطاب الديني، وليس مشايخُها ولا طبّالوها هم أصحاب الكفاءة في إشاعة القيم الإسلامية التي من شأنها حماية المجتمع من الإرهاب ومرتكبيه. كما أن منابر هذه السلطة، ووسائطها الإعلامية ومنصّاتها وشاشاتها، ليست المراجع التي يُستمع إليها، ليُستفاد منها في تحقيق تجديدٍ مطلوبٍ للخطاب الديني.
من جديد الشواهد الكثيرة على هذه اليديهية الجدل البائس، الحادث حاليا في أوساط مصرية حكومية وأشباه حكومية وإعلامية تابعة أو موالية، بشأن ما إذا كان مناسبا استبدال تدريس "التربية الدينية" في مراحل التعليم المدرسي بمادّة عن الأخلاق، أو الإبقاء عليها مع إضافة الأخيرة. وفيما أذاع وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، أن هذا الاستبدال تقرّر، نفى زميله وزير التربية والتعليم، طارق شوقي، اتجاها إلى ذلك، وأفاد بأنه تم الاتفاق على كتاب "الأخلاق والقيم والمواطنة" الذي سيتم تدريسه. وبين مؤيدٍ ومعارضٍ لهذا الخيار وذاك، تقترح أستاذةٌ من جامعة الأزهر على لجنةٍ مختصةٍ في البرلمان إلغاء مادة التربية الدينية، وتدريس مادة "الأخلاق"، تكون مشتركةً للمسلمين والمسيحيين، تتضمن آياتٍ من القرآن والإنجيل. والكلام مباحٌ لهذه السيدة، وغيرها ممن في دلائه ما يريد دلوَه في هذا الموضوع المستباح. وعجيبةٌ هذه الثنائية الضدّية (بلغة النقاد البنيويين) التي يقيمها هؤلاء بين التربية الدينية والأخلاق، وهي مستجدّةٌ من نواتج نظام السيسي، المنقوص الأخلاق كما هو ظاهر، والذي يحتاج إلى تأهيل لازم في معرفة الدين والتربية معا. ذلك أن مقترح تعليم الأخلاق سابقٌ للموسم الكلامي الراهن، ففي العام 2010 جرى في مصر نقاشٌ في هذا الشأن، طرح في أثنائه كلام صريح عن "تدنٍّ مستمر لمستوى الأخلاق في المجتمع المصري". وجيء، في تلك الغضون، على "الأخلاق" مادة للتدريس، من دون أن تصير بديلةً عن مادتي التربية الدينية، الإسلامية والمسيحية، وإنما تم حديثٌ عن مراجعةً واجبةً لمحتوى المادتيْن، وهي مراجعةٌ مطلوبة دائما.
ليست مصر وحدها تحتاج تدريس الأخلاق في مدارسها، وقد طالعنا أنه تم إقرار هذه المادة متطلبا عاما لكل التخصصات في جامعة القاهرة، فالدول العربية صارت تعرف تردّيا في منسوب الأخلاق الفردية، من حيث تفشّي المصلحية النفعية، وانحسار قيم الوفاء والصداقة الحقّة، وشيوع تورّم الذات والمسلكيات الانتهازية، فضلا عن نوازع الإقليمية والعنصرية والطائفية والمذهبية. وهذه الجامعات في غير بلد عربي تعرف ممارساتٍ من هذا كله، مع صنوفٍ من البذاءة، واشتباكاتٍ تافهةٍ وحادّةٍ ببن الطلاب. وعن مصر، الحال القائم لا يسرّ، من حيث التراجع الظاهر في الأخلاق، ما قد يُسعف في تداركه تخصيص مقرّر مدرسيٍّ عنها. ولكن، يحسن التنبيه إلى أن تحديث تدريس التربية الدينية أمرٌ آخر، وأن تجديد الخطاب الديني من أجل محاصرة أفكار التطرّف والإرهاب والتعصب لا يمكن أن تؤدّيه سلطةٌ فاشلة، ومتطرّفة في ممارساتها الفاشية والقمعية وغير الأخلاقية. ولذلك، لن تفلح خراريفُها في هذا الشأن.
من جديد الشواهد الكثيرة على هذه اليديهية الجدل البائس، الحادث حاليا في أوساط مصرية حكومية وأشباه حكومية وإعلامية تابعة أو موالية، بشأن ما إذا كان مناسبا استبدال تدريس "التربية الدينية" في مراحل التعليم المدرسي بمادّة عن الأخلاق، أو الإبقاء عليها مع إضافة الأخيرة. وفيما أذاع وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، أن هذا الاستبدال تقرّر، نفى زميله وزير التربية والتعليم، طارق شوقي، اتجاها إلى ذلك، وأفاد بأنه تم الاتفاق على كتاب "الأخلاق والقيم والمواطنة" الذي سيتم تدريسه. وبين مؤيدٍ ومعارضٍ لهذا الخيار وذاك، تقترح أستاذةٌ من جامعة الأزهر على لجنةٍ مختصةٍ في البرلمان إلغاء مادة التربية الدينية، وتدريس مادة "الأخلاق"، تكون مشتركةً للمسلمين والمسيحيين، تتضمن آياتٍ من القرآن والإنجيل. والكلام مباحٌ لهذه السيدة، وغيرها ممن في دلائه ما يريد دلوَه في هذا الموضوع المستباح. وعجيبةٌ هذه الثنائية الضدّية (بلغة النقاد البنيويين) التي يقيمها هؤلاء بين التربية الدينية والأخلاق، وهي مستجدّةٌ من نواتج نظام السيسي، المنقوص الأخلاق كما هو ظاهر، والذي يحتاج إلى تأهيل لازم في معرفة الدين والتربية معا. ذلك أن مقترح تعليم الأخلاق سابقٌ للموسم الكلامي الراهن، ففي العام 2010 جرى في مصر نقاشٌ في هذا الشأن، طرح في أثنائه كلام صريح عن "تدنٍّ مستمر لمستوى الأخلاق في المجتمع المصري". وجيء، في تلك الغضون، على "الأخلاق" مادة للتدريس، من دون أن تصير بديلةً عن مادتي التربية الدينية، الإسلامية والمسيحية، وإنما تم حديثٌ عن مراجعةً واجبةً لمحتوى المادتيْن، وهي مراجعةٌ مطلوبة دائما.
ليست مصر وحدها تحتاج تدريس الأخلاق في مدارسها، وقد طالعنا أنه تم إقرار هذه المادة متطلبا عاما لكل التخصصات في جامعة القاهرة، فالدول العربية صارت تعرف تردّيا في منسوب الأخلاق الفردية، من حيث تفشّي المصلحية النفعية، وانحسار قيم الوفاء والصداقة الحقّة، وشيوع تورّم الذات والمسلكيات الانتهازية، فضلا عن نوازع الإقليمية والعنصرية والطائفية والمذهبية. وهذه الجامعات في غير بلد عربي تعرف ممارساتٍ من هذا كله، مع صنوفٍ من البذاءة، واشتباكاتٍ تافهةٍ وحادّةٍ ببن الطلاب. وعن مصر، الحال القائم لا يسرّ، من حيث التراجع الظاهر في الأخلاق، ما قد يُسعف في تداركه تخصيص مقرّر مدرسيٍّ عنها. ولكن، يحسن التنبيه إلى أن تحديث تدريس التربية الدينية أمرٌ آخر، وأن تجديد الخطاب الديني من أجل محاصرة أفكار التطرّف والإرهاب والتعصب لا يمكن أن تؤدّيه سلطةٌ فاشلة، ومتطرّفة في ممارساتها الفاشية والقمعية وغير الأخلاقية. ولذلك، لن تفلح خراريفُها في هذا الشأن.