الأخطر من انهيار الجنيه المصري
يسألني سائق التاكسي الذي تجاوز الستين عاما: هل ما حدث في مصر ثورة أم انقلاب؟ كنّا في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، بعد الانقلاب، وبعد التفويض، وبعد مذابح عدّة، أبرزها رابعة، وبعد، وبعد، وبعد. اتضحت الصورة تماما، أو هكذا كنّا نتصوّر، ربما لأننا ننظر إليها من زاوية واحدة. كانت الرحلة من الهرم إلى المهندسين، وهي مسافة تسمح، مع زحام القاهرة، بفتح موضوعات كثيرة. أمضى السائق نصف الطريق يتحدّث عن الدنيا وأحوالها، ثم عن كرة القدم في مصر، وصادف أنه أهلاوي فجاءت إجاباتي كلها على هواه، لكنه انزعج من إجابة سؤال السياسة، نظر إليّ ساخطا، ثم قال: "انقلاب انقلاب.. المهم يحلّوها".
اندفع الرجل أسرع من عجلات سيارته يحكي عن الأمن الذي ذهب ولم يعُد مع "الإخوان المسلمين"، وطوابير البنزين، وقطع الكهرباء، وغلاء الأسعار (!)، وخطابات الرئيس محمد مرسي التي لا تقلّ عن ذلك كله استفزازاً. وعبثا حاولت الشرح أنني لا أدعم "الإخوان"، وأردت رحيلهم بانتخابات رئاسية مبكرة، وأوافق على أغلب ما يقول ولكن.. يرفض الرجل ما بعد، ولكن بحسم وأبوية تتذرّع بخبرة السنين وتعجل الشباب، ثم يقول في يقين: "انقلاب انقلاب.. المهم يحلوها".
كان الرجل، وملايين غيره، يثقون في أن الحل عند القوات المسلحة، وأن القادم يجب أن يكون حسني مبارك جديدا، و"فضّوها سيرة"، ولم يكن يعنيه ما يعنينا، الانقلاب العسكري، ومطالب الثورة، والتجربة الديمقراطية، والشهداء، الذين بادرني حين أشرت إليهم بالسؤال المقرّر في مناهج التربية الوطنية الحكومية: "إيه اللي ودّاهم هناك؟". كان الرجل مشغولا بيومه.. أكل عيشه، ورزق عياله الذين حكى عنهم.. من يبحث عن شقّة.. ومن على وشك التخرّج. ومن في الثانوية العامة، ومن ومن.. خمسة أولاد وبنات وأمّهم ومسؤولياتهم، ولا شيء آخر. وصلنا، دفعت الحساب ونزلت. فإذا به ينادي بصوت جهوري وواثق: "إن شاء الله البلد هتبقى زي الفلّ وبكرة تعرف كلام الأكبر منك وتعرف إنكم مستعجلين"... ومضى.
لن تحتاج إلى البحث عن هذا الرجل الطيب الذي أحببتُه، رغم أنه حرق دمي، فهو حولك، في كل مكان بمصر، فإذا كنت من سكان "إيجيبت" المعزولين، أو متابعا، غير مصري، للشأن المصري، فسوف تجده على مواقع التواصل.. تيك توك.. نوافذ الغلابة.. الباعة وسائقي التوك توك، والعمال والموظفين،.. هؤلاء الذين كانوا، إلى وقت قريب، ساكتين خائفين مرعوبين من السجن عقاباً على مجرّد الكلام، لكن السجن لم يعد أسوأ مما هم فيه.. تكلموا، وفي كلامهم وفيديوهاتهم ما هو أسوأ وأخطر من انهيار الجنيه.
لم يعد المواطن العادي واثقا في قدرة الدولة على الحلّ، لم يعد يصدق وعودها بالخير القادم خلف الصبر الذي لا ينتهي، لم يعد يرى في أي خبرٍ عن انفراجة قريبة سوى خطّة لبيع جزء آخر من أرضه، كما تكشف آلاف التعليقات المكتوبة والمصوّرة والتي يستحيل تزويرها. ظهر هتاف الجيش والشعب يدا واحدة، وقت نزول الجيش إلى الشوارع والميادين في 28 يناير 2011، وكان مصدره الملايين من "العاديين" الذين فقدوا الثقة في مبارك، وفي وريثه، وفي حزبه، وفي شرطته، وفي إعلامه، لكنهم لم يفقدوا الثقة في جيشهم. ظلّ الجيش استثناء، لدى المواطن العادي، بل لدى شباب الثورة الذين كانوا يسلمون البلطجية في ميدان التحرير إلى الجيش، ولدى مرشّحي الرئاسة الذين قال أحدهم، وهو عبد المنعم أبو الفتوح، إن قادة الجيش المصري، مهما اختلفنا، وطنيون في انحيازاتهم الكبرى، وإن الذمة المالية للفريق عبد الفتاح السيسي نظيفة وفوق مستوى الشبهات. كان ذلك قبل أن يسجنوه بشهور قليلة. فما القوات المسلحة الآن... قادتها... إمكاناتها... صورتها الذهنية لدى ملايين المصريين... النخب... الساسة... المعارضين.. والأهم سائق التاكسي الطيّب والواثق؟ لا أحد يصدّق الدولة، ولو صدقت، فالانطباعات، في السياسة التي لا يحبّها فخامة الرئيس، أقوى من الحقائق، فما بالنا لو كانت الانطباعات أرقاما؟ الأخطر من انهيار الجنيه انهيار الثقة.