الأبارتهايد والنازية وجهان لدولة فاشيّة
انشغلت هذه الزاوية، قبل نحو شهر، بشهادة نادرة، أدلى بها الجنرال الإسرائيلي في قوات الاحتياط، عميرام ليفين، من على شاشة القناة العامة الإسرائيلية، قال فيها، بالفم الملآن، إن قوات الاحتلال في الضفة الغربية تقيم منظومة حكم نازي كالذي كان ضد اليهود في ألمانيا، الأمر الذي وقع على رؤوس قادة دولة الاحتلال وقْع الصاعقة، واعتُبر تجاوزاً للمحرّمات، ليس لأنه فتح الأعين المتعامية على حقيقة ساطعة، وإنما لأنه عقد مقارنةً لا سابق لها، وغير مرغوبٍ بتذكّر أهوالها، من ضحية الأمس وهي تُقلد اليوم جلادها، بشهادة شاهدٍ من أهلها.
ها نحن اليوم أمام شهادة شاهد جديد من عظام الرقبة ذاتها، تمير باردو، الأثقل وزناً من سابقه، وهو رئيس جهاز الموساد السابق، الذي لا يمكن وصفه من أهل اليسار مثلاً، وهي صفة ذمّ واحتقارٍ مستخدمةٌ بتوسّع لدى اليمين الفاشي ضد كل محتجّ على التعديلات القضائية، ولا تصنيفه عضواً في منظمة حقوقية مثل بتسيلم، ولا كاتباً معارضاً في صحيفة هآرتس، من طينة جدعون ليفي، يسهل على سدنة المعبد رميه بتهمة الانحراف، وربما الخيانة، وإنما نحن أمام "أمين السر" المؤتمن على الشيفرة، وخازن المستودع الحصين، وصاحب الباع الطويل في القتل والإجرام، كان نتنياهو قد عيّنه على رأس الجهاز الأمني الأخطر في الدولة العبرية.
أذاع الابن النجيب لجهاز الاستخبارات الخارجية، تمير باردو، السرّ المعروف للقاصي والداني، في الداخل والخارج، أن إسرائيل، بمؤسّساتها الأمنية، تُقيم في الضفة الغربية، طوال 57 عاماً، نظام فصل عنصري/ أبارتهايد، يُطابق النظام المنبوذ البائد، الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا حتى 1994، ما يمكن معه اعتبار هذه الشهادة دليل إثبات قاطع، ليس هذه المرّة على نازية دولة الاحتلال فقط، وهذا مهمٌّ جداً، وإنما أيضاً على حقيقتها دولة تمييز عنصري، مسكوتاً عن أفعالها الإجرامية وارتكاباتها الوحشية من الدول الغربية.
ولا أحسب أن أقوال باردو هذه لشبكة أسوشييتد برس، الإخبارية الأميركية الموثوقة، أتت نتيجة صحوة ضميرٍ مفاجئة، أو رأفة إنسانية بحال شعبٍ يسومُه الاحتلال كل صنوف القهر والظلم، وإنما جاءت خشيةً على مستقبل الدولة اليهودية ابنة الخمس والسبعين سنة، المُصابة بأزمة العقد الثامن، المتخوّفة من خراب الهيكل الثالث، أسوة بالهيكلين السابقين اللذيْن لم يعمّرا حتى الثمانين، سيما وأن هذا التشخيص الذي أثار حفيظة حزب الليكود بشدّة أتى في سياقٍ أشمل، شارك فيه قادة أمنيون وجنرالات متقاعدون، أطلقوا التحذيرات من مغبّة إمساك الصهيونية الدينيّة بمفاتيح حكم الدولة العبرية، وأبدوا مخاوف جدّية من خطر تفكّك الجيش ووقوع حربٍ أهلية.
ومع أن منظماتٍ حقوقية دولية محترمة، سبق أن وصمت دولة الاحتلال بالعنصرية، ودمغتها بالفاشية، مثل "أمنستي" و"هيومان رايتس ووتش" ناهيك عن "بتسيلم"، إلا أن الإدانات المتواترة على ألسنة من تولّوا أرفع المناصب في الجيش، جاءت أشدّ وقعاً على أسماع جمهور يواصل الانجراف نحو اليمين المتطرّف، وبدت أكثر إيلاماً لمؤسّسة حاكمة وقعت بيد المستوطنين المتعصّبين، كون هذه التوصيفات النادرة حقاً تُعدّ شهادة إثباتٍ لا يرقى إليها شك، إن لم تكن إقراراً صريحاً من الجاني نفسه بارتكاب الجريمة الموصوفة، ما يمنح الإدانات الصادرة عن المنظمّات الحقوقية الدولية صدقية إضافية، ويساعد الضحايا على تكييف مرافعة قانونية مكتملة الأركان أمام كلٍّ من محكمة الجنايات في روما ومحكمة العدل الدولية في لاهاي.
يبقى ضرورة القول إن من غير المفيد التعويل كثيراً على مثل هذه المواقف غير المسبوقة من قادةٍ وجنرالاتٍ متقاعدين، هذه التي تُدين إسرائيل من فمها الكبير، ولا من الضرورة أخذها من دون تحفّظ، واعتبارها نقطة تحوّل في مجرى الصراع الطويل، إلا أن من غير المفيد، في المقابل، التهوين من مغزى هذه الأقوال، والتقليل من أهميتها وتأثيرها على ديناميات المواجهة متعدّدة الأشكال، الجارية على الأرض وفي الواقع الافتراضي ولدى الرأي العام، فضلاً عن مسارات الدبلوماسية الهجومية، وساحات المحاكم الدولية المرتقبة، الآتية حتماً مهما تلكّأ المفوّضون وتثاقلت خطى لجان التحقيق، حيث من المقدّر لهذه الشهادات، التي لا يحتاج أصحابها إلى إلزامية النطق بها تحت القسم، وثيقة إدانة لدولةٍ فاشيةٍ لها وجهان: عنصري مقيت وآخر نازي رهيب، فبأيٍّ من الوجهين تطلّ علينا إسرائيل.