الآداب السلطانية وتشريح الظاهرة الاستبدادية

09 يوليو 2021

(نجا المهداوي)

+ الخط -

قد لا نختلف كثيرا مع الأساتذة الذين درسوا الآداب السلطانية وتطورها بنية وأفكارا؛ إلا أن الاختلاف قد يقع في حجم التعميم الذي يقومون به في نسبة الاستبداد، وكذلك التشريح في أصوله، فيرجعوه جملةً إلى تلك الآداب السلطانية، وهو أمر من فائض بعض التعميمات التي تحتاج قدرا من التريث، ووضع تلك الكتابات ضمن السياق الذي تطوّر إليه تاريخ المسلمين السياسي. وربما في هذا المقام، نحيل إلى الكتاب المهم الذي طوف به نصر عارف "في مصادر التراث السياسي الإسلامي .. دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل" (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 1994). وأتذكر أن العنوان الفرعي لهذا الكتاب قد اقترحه أستاذنا المحقق المدقق عز الدين فودة، أستاذ القانون الدولي المبرز الذي حملت له الكتاب للتحكيم، فبعد أن قرأ الكتاب قراءة متأنية ومستفيضة، أكد على عبارة ذهبية كانت العنوان الفرعي "إشكالية التعميم .. ". ولعل هذا المبدأ المنهاجي الذي أشار إليه أستاذنا هو الذي يشكل مناط التحفظ على بعض مثل هذه التعميمات، من دون أن ننكر أن هذه الحقبة التي ترتبط بالآداب الفارسية والساسانية، والتي أثّرت بشكل أو بآخر على تلك الظاهرة الاستبدادية.

ربما يعود هذا التحفظ إلى سببين؛ يتمثل الأول منهما في الكيفية التي يُرى بها التأليف في الآداب السلطانية، وكنت قد سمّيته "ورطة الفقهاء"، أشرت فيه إلى الإشكالات التي تعلقت بتحول الخلافة إلى مُلك، فضلا عن التطوّرات التي شهدتها تلك الحقبة التاريخية الممتدة في ظاهرة التغلب وأمرائه الذين استبدّوا بالأمر في إطار دويلاتٍ متعدّدة ومتفرّقة. لعل هذه الورطة التي صادفت الفقه السياسي الإسلامي، وجعلت الفقهاء يتحدّثون بالمنطق الذي استخدموه مركبا من النصيحة، ومن التذكير بالمثالية في آن، فضلا عن اعتبارهم ذلك الواقع الذي تطوّر في حياة المسلمين السياسية، وهو ما يؤكّد على هذه الورطة لهؤلاء الفقهاء ضمن محاولاتهم للتعامل مع هذا الواقع بمعطياته وإملاءاته ومحاولة استرداد قدر الطاقة الأبعاد الأخلاقية والقيمية التي تتعلق بظاهرة السلطة. وفي هذا الإطار، فإن هذه الاستنتاجات التي قام عليها محمد عابد الجابري وكمال عبد اللطيف، وأيضا عز الدين العلام، إنما تشكل، في حقيقة الأمر، معنىً يتسم بقدر ما من الصحة، ولكنه يتجاوز في دائرة التعميم الذي تشكّل في سياقات تلك الورطة، وهو أمرٌ يجب أن يؤخذ في الحسبان عند تحليل تلك الكتابات، ومن ثم يتكشّف المسوّغ الأيديولوجي في تلك الكتابات، واعتبارها ثابتا بنيويا؛ بل واعتبار ذلك كله، على حد تعبير بعضهم، "الأيديولوجيا السلطانية"، ومحاولة الإشارة إلى أن السياق العربي السياسي والعقل السياسي المرتبط به كان مسكونا ببنية المماثلة بين "الإله والأمير"، وأن ذلك ترتّبت عليه نتيجة بديهية تتمثّل في الإقرار بمثل هذا المبدأ الذي يتعلق بتقديس الحاكم، وتسويغ استبداده، لتماهي إرادته مع الإرادة الإلهية.

لعل ربط الأحكام السلطانية بالكتابات التي تتعلق بنصائح الملوك شكلت ملاذاً لبعضهم في الحديث عن الفجوة بين ممارسات السلطة الواقعية والنموذج القيمي

فلو أردنا أن نقدّم نقدا لمثل تلك الآراء في هذا المقام، والتعويل على بعض النصوص التي تحدّثت عن السلطان، بأنه "ظل الله في أرضه"؛ لم يكن بأي حال محاكاةً لذلك المعنى الذي انتشر في الدولة الثيوقراطية في الفهم الغربي. ولكن بعض هذه الأقوال وما شابهها ساهم بعد ذلك في إضفاء بعض القداسة على السلطة؛ كما يحدّد وظيفتها في تثبيت أخلاق الطاعة الواجبة على الرعايا للسلطة من جهة، وإسباغ الشرعية على الحكم السلطاني مهما اشتدّت وطأته من جهة أخرى. يحتاج هذا التعميم إلى مراجعة، خصوصا في فهم تلك المفردات التي تتعلّق بالظلم والطاعة والشرعية، ذلك أن هذا المثلث يحتاج أن نتوقف عنده، والبحث في علاقاته. ولعل بعض الباحثين الذين توفروا تلك الدراسات المتأنية والمستفيضة لهذه المفاهيم تجعلنا أيضا أن نتحفّظ على الفهم المطلق والسلبي لمثل هذه المفردات الثلاث، فمن المهم، في هذا المقام مثلا، أن نؤكد على بعض إشاراتٍ يجب ألا نغفلها أو نهملها أو نقفز عليها؛ فبعض هؤلاء من الفقهاء كما تحدّثوا عن ضرورة السلطة تحدثوا كذلك عن ضرورات الشرعية، وكذا مفهوم الطاعة الذي اتخذه بعضهم مفهوما سلبيا على طول الخط، وحاول بعضهم أن يجعلوا منه مرادفا للعلاقة الاستبدادية وإحكام حلقاتها؛ من دون التطرّق للحديث عن الطاعة حدودا وضوابط وقيودا، وتعلقها بقضية الشرعية ضمن المفاهيم الدينية والسياسية على حد سواء، والتي ظل لها التأثير الذي لا يُنكر في العقل السياسي المسلم الفقهي وغير الفقهي. أما القاعدة التي تتعلق بالظلم وفي مواجهة قيمة العدل، فمن المهم التأكيد على تلك المعاني والإشارات التي تُعدّ الظلم خراباً والعدل أسّاً وتأسيساً للمُلك والسلطة، ما شكّل إدانة الظلم المقارن لحال الاستبداد.

تحدّث فقهاء عن ضرورة السلطة وكذلك عن ضرورات الشرعية، وكذا مفهوم الطاعة

أما السبب الثاني فإنه يتعلق بمعنى الجواز الذي ورد لدى الماوردي على سبيل المثال، في كتابه "الأحكام السلطانية" ضمن بناه وتركيباته؛ فقد تحدّث أولا عن الأصول الدستورية العامة، باعتبارها نموذجا تأسيسيا من الواجب أن يحكُم قضية السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، إلا أنه بعد ذلك، وحينما تطرّق إلى الواقع، أدرك تلك الفجوة ما بين الواقع والمثال. بدا الأمر في الحديث عن "الجواز" بمعنى الاستثناء على القاعدة، لا تسويغا لمعاني الاستبداد المستدام. وقد عبّر تعبير "الجواز" في هذا المقام عن حالة الاستثناء التي يجب أن تزول، وليست القاعدة التي يجب أن تدوم، واعتبارا لذلك الواقع. وقد حاول هؤلاء الفقهاء خروجا من تلك الورطة أن يستحدثوا مخارج؛ ربما أخفق هؤلاء في تقديم رؤيةٍ متكاملةٍ للعودة إلى نموذج الحكم الراشد الذي كان، ولعل أيضا ربط الأحكام السلطانية بالكتابات التي تتعلق بنصائح الملوك شكلت أيضا ملاذا لبعضهم في الحديث عن الفجوة بين ممارسات السلطة الواقعية والنموذج القيمي والأخلاقي. وربما لا ننكر بإطلاق هذا التأثر بالآداب الساسانية الفارسية، إلا أن حضور نموذج الخلافة الراشدة ظل حاضرا في خلفية العقل الفقهي (وإن لم يعبر عنه بالقول الصريح) ظل هذا النموذج حاضرا وضاغطا على الفقهاء، وشكل جزءا من تلك المعضلة التي صادفوها.

عود على بدء إلى كتاب نصر عارف، والذي تحدث في قضية فنية وإجرائية، أشارت إلى أن المعروف والمنشور من تلك الكتابات في المجال السياسي ظل يمثل نسبة ضئيلة، ولو أننا مارسنا بحثا أوسع في دائرة المصادر وخرائطها ستتضاعف تلك الكتابات. وقد يقول بعضهم إن الجديد المكتشف منها قد لا يضيف جديدا؛ ولكن هذا يحتاج أن نتحرّز في التعميم ضمن هذه القواعد المنهاجية المشار إليها في البداية. أما الأمر الثاني فإنه يتعلق بالعلاقة السببية، وإسناد النسبة في التأثير كاملة غير منقوصة إلى مثل تلك الكتابات في الآداب السلطانية، ذلك أن هذه العلاقة بطبيعتها مركّبة، وهذا الحسم السببي لا يفتح الباب لعوامل أخرى قد تكون أكثر تأثيرا في نشوء هذه الظاهرة الاستبدادية، سواء كانت سابقة من الناحية التاريخية أو لاحقة في تاريخنا الحديث والمعاصر. ومن هنا رد كل ما يتعلق بجذور الاستبداد إلى تلك الكتابات في الآداب السلطانية بالكامل أمر يحتاج مزيدا من المراجعة، ولا يفسّر قيام بعض نظم استبدادية لا تزال تتجلى في حياتنا المعاصرة.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".