الآخرون هم الأقربون عندما تنهار الشبكة

28 يوليو 2022

(Getty)

+ الخط -

يوم الجمعة، الثامن من هذا الشهر، يوليو/ تموز. الخامسة والنصف صباحاً، في مدينة تورنتو الكندية. انا وحدي في البيت. الجميع في الخارج. نهاري يبدأ الآن. ولا بد من فتح "اللاب توب" والشروع في العمل. لكن الخط لا يستجيب: "لا خطوط". أتصفّح الموبايلات، ولا خطوط أيضاً. لا بد أنهم قطعوا عني الخط، لسبب من الأسباب. لم ندفع الاشتراك، لم نلتزم بشيء ما مطلوب ما، كهرباؤنا ضعيفة .. إلخ من تفسيرات خنْفشارية، تعينني على "فهم" العطل.

ثم أقوم بما أعتقد انه ضروري في حالاتٍ كهذه. أقطع خط الكهرباء وأعيده، أسحب الفيَش كلها وأعيدها إلى مكانها، أغلق "اللاب توب" وأفتحه، أكبس زرّاً من هنا، أغلق زرّاً آخر من هناك... أنتظر قليلاً، لعلّ المشكلة عندي، في قلّة صبري... فأهدّئ نفسي، وأفكر بأنني في كندا، حيث الدولة كذا وكيت، والقوانين والأنظمة المحترمة، ولست في لبنان، وبأن الخط لا بد أنه على الطريق... صبراً، صبراً.

وعبثاً... خط الإنترنت ما زال مقطوعاً. في ربع لحظة، أستعيد ردود فعلي العفوية، اللبنانية، وأكاد أنادي الناطور، الذي وحده كان "يمشّي" لي الكهرباء، وينقذني من علْقة المصعد، ويحمل معي أكياس الخضار والفواكه... ثم أعود إلى "الواقع": بأن لا أحد من حولي يمكن أن يستجيب لاستغاثتي. جارتي التي على يمين شرفتي ما زلت نائمة بالتأكيد. وجاري على الشمال غائبٌ عن بيته من زمان. ماذا أفعل؟

أنزل الى الطريق، لعله يهديني إلى شيء. و .. آه .. محطة الوقود ودكانها الذي أشتري منه السجائر، يفتح أربعا وعشرين على أربع وعشرين. وأنا حاملةٌ هاتفي، أسأل البائع إن كانت لديه دقائق، يساعدني على حلّ مشكلتي. نعم في وسعه.. بعد أن ينتهي من الزبائن. أقف على جنب، بل أساعده على تمرير تجارته. وعندما تفرغ الساحة لي، أبدأ بشرح مشكلتي، ولا يدعني أنهي كلامي...

- الخط مقطوع في كلّ كندا، منذ نصف ساعة...

لا يعرف أكثر من ذلك. لكنّه يطمئنني إلى أنّ العطل لا يقتصر عليّ وحسب، وأنّ الخط سيعود في أسرع وقت، طالما أننا في كندا، ولسنا في لبنان... أتفاءل، وأدعو للبائع بالخير، له وللهند التي لا بد هو آتٍ منها. وأهدي لنفسي نزهةً في الشوارع الداخلية، حيث تفوح روائح الزهور وتنتشر الأشجار. وأقول لنفسي إنّ عليّ أن أتمشى هنا يومياً، في هذا الوقت بالذات.

وأطلع إلى البيت منتظرةً بداهة أن يكون الخط قد عاد. هيهات .. لا خط ولا من يحزنون. وليس لدي شيء أفعله الآن، غير متابعة قراءتي رواية "أنزلتها" على "اللاب توب"، وأهميتها أنها تتألف من ألف صفحة. وأنا وصلت إلى الصفحة خمسمائة .. أي أنّ الرواية لن أنتهي منها قبل عودة الخط. لكنني لم أعد أستمتع بقراءتها. وأكره فجأة مؤلفها، وأجد فيها عيوباً لم أكن متنبهة لها .. فأخرج من البيت، وأتجه صوب المقهى الذي بالتأكيد يفتح باكراً، وهو يقع على زاوية الشارع. أفاجأ بكثرة الحضور، كأنه يوم إجازة. أطلب قهوة إكسبرس، وألاحظ أن صاحب المقهى لا يقبض إلّا "كاش". أسأل لماذا، ويجيب بأنّ انقطاع خطوط الإنترنت يوقف كل المعاملات المالية الإلكترونية. يلاحظ الضيق على وجهي. فأنا لا أحمل كاش أبداً. يقدم لي القهوة مجاناً، يجيب عن استفساراتي، من دون إضافات تُذكر، ويدور حديثٌ سريع، بعد أن يسألني من أي بلد أنا. ويبتسم على سيرة لبنان "نعرف الكثير منهم. في بلادنا .. وأنا من فنزويلا".

 في الشارع، الوجوه مغلقة على نفسها بسياج اللطف والتهذيب

أجلس في المقهى، وأنظر إلى الناس حولي. ثمّة تحول في الجلسة. رواد المقهى لا يحملون هواتف، ولا يتصفحونها، أو يحدّقون بها. الجميع يتكلم مع الجميع. كما في المقاهي أيام زمان.

أعود إلى البيت، وأقرأ في رواية ذاك الأسترالي. لم أعد أقرأ إلّا عيوب أسلوبه، وإصراره على وصف كلّ العيون التي التقاها، وبالعبارات نفسها. كأنه يراهن أننا نسينا، وسط الألف صفحة، ما سبق له أن وصف من عيون .. دمي لا يحترق، لكنني لا أستطيع القعود في البيت. أخرج ثالثة، وقد صارت الساعة التاسعة، ولا بد أنّ السيدة الصينية صانعة الحلويات الإفرنجية قد فتحت محلها. هل تعرفين؟ الإنترنت؟ نعم نعم... تجيبني بابتسامة عيونها. طيب والانقطاع؟ والدفع كاش؟ ألا يخسرك مبيعات؟ أخسر .. أخسر... لكن لن أتوقف، والخط سيعود سريعاً.

جارها، الصيني الآخر، طبيب الأسنان، يبدو أقلّ تسليماً منها، لا يستطيع أن يشتغل، فيكنس أرض مدخل عيادته بغضب. أسأله إن توقف عمله مع الإنقطاع، ويجيب بمزيد من الغضب، فلا يسيطر على لكنته الصينية التي ما كان ممكناً أن أفهمها لولا "السياق" وتعابير وجهه .. من أنّ أمره انتهى بكنس مدخل عيادته! إنّه أقل جبروتاً، أخفّ ظلاً من جارته صانعة الحلويات التي تواجه القدر كأنها شخصية روائية.

أمشي في الشوارع قليلاً، أتخلّى عن غضّ الطرف، كما هو معمولٌ في آداب الشوارع الكندية. أتفحّص وجوه المارّة القليلين، أود أن أسأل أصحابها عن رأيهم بانقطاع الإنترنت، عما يفعلونه الآن .. لكنّ الوجوه مغلقة على نفسها بسياج اللطف والتهذيب. أصعد إلى البيت، والرواية مجدّداً، وقد زاد ثقل دمها.

فجأة، عندما انقطع الخط، كان الرد العفوي بأن يلتقي الناس ببعضهم شخصياً

وفي العاشرة، أقول إنّه آن أوان، دكان صديقتي نادين. الكندية القديمة، مزيج فرنسي - أنغلو ساكسوني، كما تقدّم نفسها. أزورها كل حين. رقيقة، كريمة، تحب بوتين، وتكره الفساد الرأسمالي. وتبيع أدوية طبيعية من أعشاب عضوية وما شابه. ودكانها مليء بالعجائب .. تنقذني نادين. تقول إنّها ذاهبة إلى البنك لسحب "كاش". كاش؟ إذاً ممكن سحب الكاش. فتبطل بذلك إحدى صواعق الإنقطاع الإلكتروني، ويزول هلعي من افتقاد الكاش. نتمشّى في حيّ نادين المصغّر، كأنّها مختارته. تعرّفني إلى جارها أنتوني، الذي يبدو عربياً خالصاً. "من سيسيليا"... آه مفهوم الآن. وأنتوني يبيع ثياباً صُنعت في إيطاليا، ولا يبدو مهتماً كثيرا بطريقة عرضها .. لسانه والماركة يغنيان.

ثم ننتقل إلى إيزابيلا، المكسيكية ذات الملامح الهندية - الأوروبية، التي تدير وحدها، بالقرب من محطة المترو، مطعماً لمأكولاتها. نحلة أخرى، لها أكثر من يدين .. وابتسامة سمراء مرحّبة، وكرم. كل من يدخل عندها يحوز تلقائياً قطعة حلوى، والمنتظرون طلبياتهم عندها يصبرون على اجتماعياتها، إذ تنعشهم بروحها الريفية المضيافة.

أعود إلى البيت، وفي طريقي أمرّ على المقهى الفنزويلي، أدفع له ثمن القهوة، وأسأله عن آخر أخبار العطل، فشائعات عن قرصنة إلكترونية ينفيها الجميع، وأخرى، أنّ الكهرباء ستعود بعد ساعتين أو ست ساعات .. إلخ.

هكذا يمضي نهاري في تلك الوعْكة الإلكترونية. بين خروج وعودة، ورواية أصبحت كالواجب المملّ، وعجز تام عن القيام بأي شيء مما اعتدته في نهاري. العطل الإلكتروني استمر أربعا وعشرين ساعة. عطل معه مجالات ومجالات.

الإعلام. الأخبار كلها مقطوعة. لم يعد هناك صحيفة ورقية تلبّي الدور. كل الصحف والمواقع إلكترونية. الشراء والبيع، تعطّلا أيضا. وكأن جمودا هبط على السوق. الإتصال مع أي أحد، سواء كان مشتركاً بشركتك نفسها، أو في شركة أخرى، دولياً أو كندياً.. تعطّل. حتى رقم الطوارئ 911 توقف. أي أنك لا تستطيع أن تطلب سيارة إسعاف أو إطفائية. وإذا أردتَ أن تنسى الدنيا وما فيها، فتستمع مثلاً إلى الموسيقى، أو تحضر فيلما على النتفليكس أو غيرها، فلا مجال، كله يمشي على الإنترنت.

ألغى الإنترنت المجال العام المحسوس، وألغى العلاقات الإنسانية المباشرة لصالح شبكات التواصل

وثمّة وجه إيجابي وحيد لهذه الميني ديستوبيا. بأنها كشفت لنا أن الإنترنت الذي ألغى المجال العام المحسوس، وألغى العلاقات الإنسانية المباشرة لصالح شبكات التواصل، الذي عمل أكثر من عشر سنوات لحشر البشرية بخيوطه وكابلاته، وإغلاقها عليها كأنها ساكنة في أقفاص. الذي حوّل المدينة إلى اللاوجود، مكان هجرته روحه، إلى مجرّد ممرّ نحو الهدف، إلى مكان يجمع غرباء، إلى مكانٍ لا يصلح لأي فضول .. وفجأة، عندما انقطع الخط، كان الرد العفوي بأن يلتقي الناس ببعضهم شخصياً.

يوم الثامن من يوليو/ تموز يضعني على صلة مباشرة مع أهل الحيّ، فأقارن بين تلك الصلة "الأرضية، الملموسة"، والصلة الافتراضية التي أغرقنا بها الإنترنت. وأنا أتنعّم بالأولى، أقول لنفسي إنها تحمل معها ذبذبات خاصة، وروائح، وصورا، تغيّر المسْمع والملْمس، تعيد للحدْس وثْباته. وبما أنني لست متفائلة، وأتوقع أعطالاً قادمة، ربما أكثر أذيّة، أرى أنّ الوقاية من نوع كهذا من الديستوبيا تبدأ الآن، وهنا. في التواصل مع الأقرب.

(الشركة التي تعطّلت خدماتها في ذاك اليوم المشهود واسمها "روجرز"، هي الأقوى، 10 ملايين مشترك، من بين ثلاث شركات أخرى تبيع الخدمات نفسها. والشركات الثلاث خاصة).