اقتتال فصائل الشمال السوري ووَهْم "الجيش الوطني"
ظاهرة التناحر الفصائلي في مناطق شمال سورية، التي يطيب لبعضهم وصفها بـ "المحرّرة"، ليست جديدة، فاندراج الفصائل المنتشرة هناك ضمن هيكلية ما يسمّى "الجيش الوطني" لم يمنع الاقتتال فيما بينها، لأسبابٍ يغلب عليها تنافس القادة على النفوذ والموارد. لكنّ الجديد هذه المرّة اتساعُ نطاق المعارك، ليشمل تشكيلات تنتمي إلى "الفيالق" كافة، والأخطر انقسامُ الجيش إلى فريقين، يقف أحدهما مع فصيل من خارجه هو "هيئة تحرير الشام"، في القتال ضدّ "رفاق السلاح" من الجيش نفسه!
أياً تكن الأسباب المباشرة وغير المباشرة للتصعيد، فإنّه دليل على فشل محاولة تحويل مليشيات مسلحة متنافرة، يغلب على عناصرها وقادتها سلوك المرتزقة وأخلاقياتهم، إلى تشكيلات نظامية ضمن جسم عسكري واحد. تأسّس "الجيش الوطني" بمبادرة تركية، وبالتنسيق مع "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة لائتلاف المعارضة، في 30 يناير/ كانون الثاني 2017، وحظي المشروع باهتمام الحكومة التركية على أعلى المستويات، حتّى أنّ الرئيس أردوغان اعتبره غير مرّة "نواة الجيش الوطني لسورية". ضمّ "الجيش" عشرات الفصائل المسلّحة السورية، قسم منها اشتهر قبل سنوات في قتال النظام السوري، وتشكّل قسم آخر بدعم تركي مباشر، بدءاً من عام 2016، للمشاركة في عمليات ضدّ المقاتلين الأكراد داخل سورية، أو حماية القواعد العسكرية التركية فيها.
حالة التناحر الفصائلي كانت في حدودها الدنيا، حين كان "الجيش الحر" عنواناً وحيداً لحمل السلاح في مواجهة النظام
واقع الحال أنّ التقسيمات التنظيمية وتوزيع الفصائل على فيالق تضم فرقاً وألوية، لم تكن أكثر من تغيير شكلي في التسميات، فهي لم تفلح في إلغاء الحالة الفصائلية ضمن "الجيش الوطني"، بل ساهمت في تعزيزها وتكريس سلطة أمراء الحرب من قادة الفصائل. وعلى الرغم من تأسيس قضاء عسكري وجهاز للشرطة العسكرية، فضلاً عن الشرطة المدنية، والتي يُفترض أنها الهيئات المسؤولة رسمياً عن ضبط الأمن وتطبيق العدالة في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، فإنّ كبرى الفصائل احتفظت بأجهزتها الأمنية والهيئات "القضائية" خاصّتها، فضلاً عن العديد من السجون ومراكز الاعتقال السرّية التي تديرها. على ذلك، جاز وصفُ ما أريد له أن يكون "نواة لجيش سوريا الوطني"، بأنّه جسم هجين تخترقه الفصائلية والمناطقية والصراع على المكاسب المادية. والانتهاكات التي ارتكبتها تشكيلاته بحق السكّان المدنيين، جعلت منه عامل توتّر واضطراب، لا عامل استقرار في أي منطقة يدخلها.
تشكّل هذه المعارك بين من يزعمون أنّ عدوّهم واحد هو نظام الأسد، امتداداً لظاهرة رافقت العمل المسلّح المعارض الذي نشأ بعد أشهر من انطلاق الثورة السورية. لكنّ الأمانة التاريخية تستوجب القول إنّ حالة التناحر الفصائلي كانت في حدودها الدنيا، حين كان "الجيش الحر" عنواناً وحيداً لحمل السلاح في مواجهة النظام، ثمّ ازدهرت "الظاهرة" وانتشرت بصورة أكبر بعد ظهور مجموعات مسلّحة تتبنّى خطاباً إسلامياً جهادياً. ذلك أنّ طغيان الصبغة الإسلامية لدى مزيد من تشكيلات المعارضة المسلحة أدّى إلى انحسار "الجيش الحر" تدريجياً، ومعه الخطاب الوطني الجامع وعلم الثورة، لصالح خطابٍ فئوي متطرّف، ظلّلته رايات إسلامية متصارعة. فتح هذا التطوّر الميداني والإيديولوجي الباب أمام تغليف اقتتال الفصائل بأردية الشريعة، خلال انشغالها بتصفية بعضها بعضاً، عوضاً عن مواجهة قوات الأسد، وبات جهدها العسكري منصبّاً على حروبها البينية، وليس على قتال النظام وحلفائه المتربّصين بها. هذا ما شهدته أحياء حلب الشرقية المحاصرة حتى الأيام الأخيرة التي سبقت سقوطها، وكذلك الغوطة الشرقية، حين تواصلت المعارك بين "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، على الرغم من استغلال قوات النظام الموقف وتقدّمها في محيط الغوطة المحاصرة، إلى أن نجحت في استعادة السيطرة عليها، وتهجير المقاتلين وعدد كبير من المدنيين إلى الشمال.
لم تدّخر جماعة الجولاني جهداً في سحق الخصوم والمنافسين، ثم الانتقال إلى القضاء على الشركاء والحلفاء
بالعودة إلى اقتتال تشكيلات "الجيش الوطني"، وتحالف بعض قادته وفصائلهم مع "هيئة تحرير الشام"، بزعامة أبي محمد الجولاني، ضدّ بعضهم الآخر، فالأرجح أنّ استمرار سيطرة الهيئة في مناطق هؤلاء يعني أنّ نهايتهم وشيكة. لقد أثبتت التجارب كيف أنّ الجولاني، كأي سلطة استبداد تتغطّى بالدين، تنظر إلى نفسها، وينظر إليها الأتباع والمريدون، بوصفها الجماعة النقيّة الطاهرة والصادقة، والآخرون، في أفضل حالاتهم، بحاجة إلى التنقية في الاعتقاد والممارسة، ومن ثمّ لا تقبل مشاركة سلطتها مع أحد. على هذا الأساس، لم تدّخر جماعة الجولاني جهداً في سحق الخصوم والمنافسين، ثم الانتقال إلى القضاء على الشركاء والحلفاء، بعد إضعافهم وشقّهم من أجل الهيمنة عليهم، وذلك في مراحلها وتحت أسمائها المختلفة. البوصلة هي مصالح زعيمها المتغيّرة، والتي تسندها دوماً "فتوى شرعية" تتوفّر حسب الحاجة.
وإذ مكّن هذا الأسلوب الجولاني ورجاله من السيطرة في شمال غرب سورية، بشكلٍ تدريجي ومنظّم على حساب بقيّة الفصائل، فإنّ نتائج انخراطه في معارك "الجيش الوطني" الداخلية رهنٌ بحقيقة موقف تركيا من التطورات الميدانية الحاصلة، في منطقة تُعدّ من مناطق نفوذها في سورية. فهل تورّط الجولاني في مغامرة خاسرة، أم أنّه جزءٌ من ترتيبات جديدة يجري العمل عليها؟