افتحوا الأبواب لتدخل السيدة .. والسيد
"وأنا محاولة البقاء وكل ما حولي يحاول أن أزولا/ الوقت ذو نابين يكمُن لي/ وأهلي يهدمون يدي/ أضيفُ، يداي أخطأتا كثيرا أو قليلا!/ وطني سماحي لم أصل في موعدي/ الموت أخرني قليلا".
إذن، انتهت محاولات بقاء الشاعر مريد البرغوثي بجسده، لكن روحه بقيت فكراً وشعراً، وكذلك لم ينقطع فضله على ما لا يحصى من التلاميذ والأصدقاء.
في 2011، التقيت الروائية المصرية، رضوى عاشور، للمرة الأولى منفردة، ثم مع زوجها البرغوثي. كنتُ حينها شابا مرتبكا، قادماً من الصعيد، يقدّم خطوة ويؤخر أخرى في تلك المدينة الكبيرة، ولا يزيد أرشيفي عن بضع مقالات لا أكثر. فوجئت بأن الشاعر الكبير يعرف ما أكتب. ليس مردّ ذلك شخصي، بل شخصه. هو من كان يهتم بالغ الاهتمام بالثورة المصرية وبكل ما ينتجه جيلها. وجدتُ، كما وجد غيري، الدعم والكرم في حديقتهما الغناء، وإلى اليوم أحتفظ بلوحات للرسام السوري، برهان كركوتلي، أهدتني إياها الدكتورة رضوى.
كانا يؤمنان بنا. هل رأيا في جيلنا أملا يحميهما من تكرار تجربة الافتراق القاسية؟ قصتهما درامية كما يليق بقصيدة، لا بالواقع. غادر البرغوثي قريته، دير غسّانة، ليدرس الأدب الإنكليزي في القاهرة عام 1966، وفيها تلقى خبر الهزيمة، ومنعه من العودة إلى أرضه المحتلة. يُفتن بحب زميلته بالكلية التي تهيم بشعره بدورها. يحاربان رفض أسرتها، وتعقيدات القوانين. يتزوّجان وينجبان، لكن البرغوثي يخرج من مصر تاركا طفلا عمره أشهر، بعد ترحيله على يد رجال أمن غلاظ، بسبب معارضة خافتة أبداها لمعاهدة كامب ديفيد. قال لاحقا إنه اكتشف إنها وشاية من زميل في اتحاد الكتاب الفلسطينيين! .. لم يعد إلى مصر إلا عام 1993، أي بعد 17عاماً، حيث انتقل من القاهرة إلى بيروت، ثم إلى بودابست.
"أنا لا سرير يدوم لي / لا سقف يألفني طويلا/ أما الأحبّة لست ألمسهم، وإن قالوا "الإقامة" قلت بل قصدوا "الرحيلا"/ ويجيء بالأخبار راويها فافزع قبل أن أصغي له أو أن يقولا". .. شاب شعر مريد البرغوثي في المنافي، لكنه احتفظ بروح شابّه متمرّدة، يرفض التراكيب اللغوية المكرّرة، كما يرفض الشعارات الفارغة من البوصلة الأخلاقية "معيار السلوك عندي ليس الصحيح والخطأ بل الجمال والقبح".
بالنسبة له، لا تنفك قضية تحرير وطنه عن تحرير المواطن العربي في بلاده. ليس متمركزا أعمى حول ذاته. في سيرته "رأيت رام الله" يقول إنه أدرك أن له أشباها "من المواطنين الغرباء في عواصمهم ذاتها ودون أن تتعرّض بلادهم للاحتلال الأجنبي".
يؤكد مرارا، في طيات شعره، على إعجاز العادي. بخلاف تمنّي الشهادة المعتاد في "الشعر المقاوم". يمتدح مريد في إحدى قصائده الوفاة الطبيعية وسط الأهل. وفي قصيدة "الشهوات" يحدّثنا عن "شهوة لبلادٍ تطالب أبناءَها بأقل من الموت جيلاً فجيلا/ وفيها من الوقت وقتٌ نخصّصه للخطايا الحميمه/ والغلط الآدمي البسيط/ وزحزحةِ الافتراض البطوليِّ عنّا قليلا/ فمسكينةٌ أُمَّةٌ حين تحتاج كلَّ البطولات من كلِّ أبنائها/ وتعيش الحياةَ قتيلاً قتيلاً".
لكنه على الرغم من ذلك، عاش حياة بطولية. شجاعة أمام السلطات المختلفة، وشجاعة أمام الذات. يؤكّد مرارا أهمية "رصد حصة الضحية من أخطائها، وعدم الاكتفاء برصد الخلل عند الآخرين، الغازي، أو المستعمر، أو الإمبريالية". في سرده لمعنى اسم عائلته، روى أن أهله أخبروه أنه من البرّ والغوث، بينما يقول إنه يعتنق تفكيرا مباشرا لن يُرضي وجهاء الأسرة، وهو أن المقصود هو البرغوث لا أكثر.
في لقاء أخير في لندن، التقيت مريد في سهرة مطولة. تحدّث بتدفق وحميمية عن ثورات الربيع العربي. كرّر مقولته إن عام 2011 هو وحده العام الجديد. كان حادّاً كالسيف في موقفه من الاستبداد العربي، وفي عدم التغاضي عن استبداد النظام السوري بحجّة الممانعة. رفض النظر إلى الغرب فقط مستعمرا سابقا، وأكد احترام المنجزات الغربية في مجال الحريات الفردية. تحدّث بحنان واضح عن شباب مصريين سجناء، مثل علاء عبد الفتاح، كأنهم جميعا أبناؤه.
لاحقا، قرأت قصيدته لنعي شقيقه منيف الذي قال إنه الرجل الوحيد الذي يمكن وصفه بصفات الأمومة، فهو "رجل رؤوم". اليوم فقدنا رجلاً رؤوما نادراً آخر.