استفزازات بالجملة

05 فبراير 2024

(جانيت بارنز)

+ الخط -

أقردني الله (هكذا نقولها بالدارجة الأردنية للتعبير عن إقدامنا على فعل متهوّر)، وللقرد مكان غامض وغريب في ثقافتنا الأردنية الشعبية، نستخدمه أحياناً وحدة قياس، فنقول: "كلهم قردين وحارس" للتدليل على قلّة العدد، وفي معاملاتنا المالية نقول: "إذا ضربها القرد فهي تساوي كذا"... ما علينا، المهم أن الله "أقردني" حين سوّلت لي نفسي الأمّارة بالنكد أن أنشر "بوستاً" على "فيسبوك" أنتقد فيه مظاهر الفرح العارمة والمبالَغ بها (برأيي) على إثر فوز الأردن على العراق في كأس آسيا في الظروف المأساوية التي يمرُّ بها أهلنا في غزّة من قتل وإبادة وتهجير وتجويع وتشريد. كتبتُ جملة بريئة على صفحتي أقول فيها: "طلع آخر همْنا طابة!". ... وعينكم ما "تشوف" إلا النور، انهالت عليّ الرسائل على الخاص والتعليقات على الصفحة، مندّدة بطرحي غير الوطني المستكثر على أبناء الشعب المبتهج فرحتهم بالفوز العظيم. وهكذا بكل شجاعة! ومن باب "إذا انجن ربعك عقلك ما بينفعك"، شطبت البوست، خشيةً من تعكير صفو أفراح الوطن، علماً أنني من محبّي كرة القدم في العادة، غير أن الفرح تحت أي عنوان بات ضرباً من الإثم، فيما المقتلة ما زالت دائرة في غزّة تحت سمع العالم وبصره بأسره. 
على صعيد آخر لا يقلّ استفزازاً، أقامت إعلامية مصرية شهيرة لطمية مدوية ما زالت مستمرّة أثارت جدلاً كبيراً بين مؤيد ومعارض، بسبب فشل عملية تجميل أجراها طبيب تجميل لبناني لا يقلّ شهرة، وأدت إلى تشويه ملامح وجهها بالكامل، وما زال الطرفان يتبادلان البثوث، كلٌّ يشهّر بالآخر، ويهدّد باللجوء إلى القضاء، وأصبحت الحادثة المؤسفة مدار الحديث والتحليل على "السوشال ميديا"، باعتبارها أكبر همومنا، فانبرى أنصار الإعلامية عاشقة الفضائح المثيرة للجدل في الدفاع عن نجمتهم المحبوبة ضحية الطبيب الذي تصدّى الإعلام اللبناني للدفاع عنه والإشادة بمهارته وخبرته العالية وكَيْل الاتهامات لها وتحميلها ذنب الهوس بالتجميل.
وبلغت ذروة الاستفزاز أنّ كاتباً ثمانينياً، يبدو أنه يعيش مراهقة متأخّرة يفتقر إلى الحد الأدنى من الوسامة، انهمك منذ بداية المجزرة بنشر صور شخصية له مبتسماً سعيداً بالحياة بواقع يومي، إضافة إلى صور العصافير وهي تزقزق والقلوب الحمراء والشمس الساطعة في تجاهل مثير للعجب لأحداث دامية على مقربة منه، والمفترض أنها تعنيه على مستوى شخصي، لكنْ "أخونا ولا على باله"، ما زال ماضياً في التعبير عن لا اكتراثه بما يجري لأبناء جلدته. وكاتب آخر لا يقلّ صفاقة (هجين سفر) حريص بشكل غير مفهوم على تزويدنا بالوثائق والصور والبث المباشر عن تفاصيل سفرياته المتتالية.
قد يقول قائل: "وأنت مالك دعي الخلق للخالق، وبلاش مزاودة". وتحرّياً للدقة، عليّ أن أشطب "قد"، فقد قالها قائل في وجهي، بلا خجل، وقد أصبح التضامن مع جراح غزّة عند بعضهم في زمننا الأغبر تهمةً تستدعي الدفاع والتبرير. 
أيّ دركٍ منحطٍّ وصلنا إليه؟ أيّ عار يلطخ جباهنا ونحن نغسل أيدينا من دم إخوتنا، ونواصل تفاهاتنا غير عابئين بالدم المسفوح غيلة وغدراً وتواطؤاً وصمتاً مخزياً مخجلاً؟ وتظلّ الأسئلة الصعبة مطروحة بلا إجابات شافية. كيف سنواجه كل هذا العبث؟ وماذا سسيجل التاريخ عن مواقفنا المتخاذلة؟ بالأحرى كيف سنواجه أنفسنا ونحن الشهود الذين يعيشون المرحلة الأكثر قتامة في تاريخ الأمة المشرذمة الماضية في غيّها، العاجزة عن التأثير لفرط انهماكها في الثانوي والسطحي، وقد نالت ما نالته من حقن التخدير واللامبالاة؟ وفي زمن التخلي والنكران والتجاهل لا نملك أمام دموع طفل غزّي رحلت عائلته كلها وخلفته مرتعداً في خيمة تخفق فيها الرياح مع شقيقته الرضيعة يعتني بها ويحاول حمايتها من بطش عدوٍّ مجرمٍ بلغ منتهى السفالة يقتحم المستشفيات متنكّراً بكل خسة وغدر ليغتال الجرحى من على أسرّتهم التي تلطخ بياضها بالدماء المسفوكة غيلة سوى أن نطأطئ رؤوسنا خجلاً وعجزاً وقهراً. 

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.