ارتدادات عربية للأزمة الأوكرانية
من السابق لأوانه التكهن بما ستؤول إليه الحرب الروسية الأوكرانية، وإنْ كان مؤكّدا أن الطبيعة المركبة للأزمة تجعل من الصعب استمرار النظام الدولي الذي تشكّل بعد سقوط جدار برلين. وتبدو السلطويات العربية معنيةً بتداعيات هذه الحرب، في ضوء التحوّل الجيوسياسي الذي قد يواكب اتساع رقعتها، وانتقال ذيولها إلى مناطق أخرى، بما لذلك من تهديدٍ لمقتضيات السلم الدولي، كما تُعرِّفه الدول الكبرى التي تتواجه الآن في ما بينها لإعادة صياغة معادلة القوة والمصالح، بعد أن استنفد هذا النظام، أو يكاد، مقوّمات استمراره بعد الاجتياح الروسي أوكرانيا.
من ناحية، يُتوقع أن تشهد الدول العربية، المنتجة للغاز والنفط، ارتفاعا في مواردها المالية، بسبب تزايد الطلب على مصادر الطاقة. لكنها، في الوقت نفسه، ستجد نفسها مرغمةً على تدبير ذيول العقوبات الغربية على روسيا، فاستمرار الحرب، بالتوازي مع تشكُّل منظومة متكاملة لهذه العقوبات، والصعوبات اللوجستية المرتبطة بتعويض نقص إمدادات الغاز الروسي نحو أوروبا، ذلك كله قد يربك الأسواق الدولية، ويدفع هذه الدول إلى إعادة النظر في اصطفافاتها بشأن الأزمة، لا سيما إذا ما ارتفع منسوب التوتر في شرق أوروبا. لقد نجحت دول الخليج، وبالأخص السعودية والإمارات، في الالتفاف على الضغوط الأميركية من أجل رفع إنتاج النفط لتغطية النقص الحاصل نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا، وبدت أكثر واقعيةً في التعاطي مع تنامي الدور الروسي في تشكيل خرائط القوة والمصالح. بيد أن هذا الحياد لا يبدو بعيدا عن ملف إقليمي آخر لا يخلو من حساسية، ويتعلق الأمر بمفاوضات الملف النووي الإيراني الذي تتخوف السعودية والإمارات من أن تُفضي مفاوضاته إلى حصول إيران على تنازلاتٍ كبيرة، تُتوج بتوقيع اتفاق نووي يرفع عنها العقوبات، ويمنحها هامشا جديدا للمناورة في الإقليم.
في السياق ذاته، يشكل اعتماد دول عربية على روسيا وأوكرانيا، في سد حاجياتها من القمح والحبوب، رقما أساسيا في التوازنات الاجتماعية والمعيشية، فارتفاع أسعارها في الأسواق الدولية نتيجة تراجع الإنتاج، خصوصا في أوكرانيا، قد يزيد من حدّة الاحتقان الاجتماعي أمام تراجع مداخيل شرائح واسعة تشتغل في القطاع الفلاحي، وغياب سياسات فلاحية قادرة على ضمان الأمن الغذائي لشعوب المنطقة. وبالنظر إلى أن ذلك يتزامن مع مخلّفات الجائحة وأوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية، قد يُفسح المجال أمام حالةٍ من عدم الاستقرار الأهلي والاجتماعي في المنطقة. كما أن من شأن استبعاد روسيا من نظام ''سويفت'' المصرفي أن يضرّ بمصالح دول عربية ترتبط بصفقات أسلحة معها، ويؤثر عليها اقتصاديا واجتماعيا.
من ناحية أخرى، لن تسلم بعض الملفات الملتهبة في المنطقة من ذيول الحرب الروسية الأوكرانية، بسبب أهمية الدور الروسي في توجيه منعرجاتها، وفي مقدّمتها الملفان، السوري والليبي. وسيلقي ارتفاع حدّة التقاطب بين روسيا والغرب بظلاله على مسارات الحل السياسي، مع ما يعنيه ذلك من تزايد أعباء القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في البلدين. كما أن موسكو قد تلجأ إلى توظيف أوراق جديدة في ليبيا التي تُعدُّ مصدر قلقٍ بالنسبة لأوروبا في ما له صلة بالهجرة والإرهاب، ولا يُستبعد أن يُصبح إطلاق موجة هجرة واسعة نحو أوروبا، انطلاقا من السواحل الليبية، جزءا من مواجهة أوروبية روسية واسعة تلوح في الأفق.
بالنسبة للقضية الفلسطينية، يُسائل عدم تحمّس الغرب لحل دبلوماسي للأزمة الأوكرانية واستمراره في تزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعدّات العسكرية المتطوّرة مدى صدقية التصريحات المتواترة لقادته عن استعدادهم لرعاية اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يُدركون جيدا أنه لن يكون إلا في صالح إسرائيل، بما يمكّنها من الإجهاز على ما تبقى من الحقوق الفلسطينية. وفي ذلك إشارة دالّة يجدر بالفلسطينيين قراءتها جيدا وتوظيفها في توسيع قاعدة المتعاطفين مع قضيتهم في العالم.