احذروا هزيمة روسيا
لم تنتهِ الحرب الروسية في أوكرانيا، ولم تتبيّن لها نهايةٌ تستقرّ عليها نتائج منظورة ومحسومة، وإنْ تخفُت وتيرة التدمير وتعلو، تبعا إلى ما لا نعرف من حسابات أهل القرار العسكري الروس في الميدان، ولكن الغرب، الولايات المتحدة تحديداً، لا يستعجل افتراض هزيمة روسيا فقط، وإنّما يتعامل مع المشهد بأن هذه الهزيمة تحقّقت، ولم يبق سوى أن تلوّح موسكو براياتٍ بيض، وأن تزدرد مزيداً من العقوبات وتعضّ الأصابع ندما. يدلّ على هذا أن في وسع وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، بلينكن ولويد أوستن، أن يتجوّلا في كييف، وبعدهما رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، وأن الرئيس بايدن لا يجد صعوبةً في حيازة موافقة الكونغرس على تمويلٍ وراء آخر لأوكرانيا، جديدُه أخيرا 2,6 مليار دولار. أما الإسناد بالعتاد العسكري، الثقيل والنوعي، فلا يتوقف. وإذا صحّ ما نشرته صحافةٌ أميركيةٌ أنّ الاستخبارات المركزية زوّدت الجيش الأوكراني بمعلوماتٍ فائقة الأهمية والحساسية، ساعدت في قتل جنرالاتٍ روس، وأخرى مثلها ساعدت في ضرب الطرّاد الروسي، موسكفا، فإن هذا ينطوي على عزمٍ مقيمٍ في واشنطن أن هزيمة روسيا، واستحالة فرضها شروطا على أوكرانيا، ليستا من بين أفكارٍ مطروحةٍ للتداول والتفكير بوصفها خياراتٍ ممكنة، أو مأمولة، وإنما هما قراران استراتيجيان، مركزيان، تاريخيان. وقد قال لويد أوستن إن الولايات المتحدة تريد أن ترى روسيا ضعيفةً، فلا تتمكّن من تكرار غزوٍ آخر كالذي أقدمت عليه في أوكرانيا. وقال أيضا إن الخطوة الأولى لربح الحرب هي الثقة بأن هذا الربح مؤكّد.
ويمكن الوقوع على ما قد تعدّ أسبابا وجيهةً للزهو الأميركي (والغربي) المبكّر بهزيمةٍ روسيةٍ باديةٍ في أوكرانيا المغدورة، من قبيل عدم إنجاز الرئيس بوتين أيا من أهدافه السياسية الاستراتيجية من الحرب التي اتّخذ قرارها، وتستمرّ منذ نحو ثلاثة شهور، ولم يعد يُعايَن في غضونها سوى مظاهر الخراب والدمار في مدنٍ وحواضر أوكرانية، وممرّاتٍ آمنةٍ يجري التوافق بشأنها لخروج مدنيين، وكذا إقرارٌ روسيٌّ، أحيانا قليلة، بخساراتٍ وقتلى بأعدادٍ ليست هيّنة. غير أن الذهاب إلى وجهةٍ كهذه في التحليل ربما تكون خادعةً بعض الشيء، فالخواتيمُ لمّا تظهر بعد مؤشّراتٌ نهائيةٌ تسوقُ إليها. وإذا كانت الحساباتُ تنبني على أن كييف لم تسقُط في قبضة الجيش الروسي الغازي، وإنّ حصارا عسكريا على مبعدةٍ من بعض أطرافها لم يؤتِ شيئاً، ولم يستمرّ، فإنّ هذه من حساباتٍ افترَضت عند أصحابِها معرفةً مؤكّدةً ببنك الأهداف ومراحل إنجازها ومسار العمليات العسكرية، كما هي القرارات في هذا كله في مكتب وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، وهذا ما ليس في وسع أحدٍ أن يدّعيه. والأنسب ربما هو التحوّط من الأخذ والردّ في تفاصيل عسكريةٍ من هذا القبيل. وبعد التسليم البديهي بأن العوائق الميدانية التي ووجهت بها القوات الغازية كبيرة، وأحدثت أثرا بيّنا في مجرى العملية العسكرية كلها، وربما اضطرَّت أهل القرار في الكرملين إلى مراجعة الخطط والرهانات، الأدعى شيءٌ من التريّث في توصيف المشهد العام ومآلاته، والتواضع بشأن إشهار خلاصاتٍ قبل أوانها.
هذا توماس فريدمان يكتب، في مقالته في "نيويورك تايمز"، إنّ من غير الممكن التنبؤ بسلوك بوتين، وإنّ المساعدة الأميركية الواجبة لأوكرانيا من أجل استعادة سيادتها ينبغي أن تكون عن مسافةٍ، وألّا تعني تحوّل أوكرانيا إلى محميةٍ أميركيةٍ بجوار روسيا. وهذا صاحب هذه السطور يجد التوصيف الأنسب للحالة الروسية العسكرية في البلد الجار أنّها تحقّق نجاحاً متعثّراً، فالمأزق الذي تغالبه موسكو هناك لا يعني أن القصّة انتهت، سيما أنّ المقاصد الروسية في الأساس من غزو 24 فبراير لم يعرّفنا أيٌّ ممن حدّدوها (في ما بينهم) أنّ منها ضمّ البلد كاملاً، البلد الباهظ المساحة والسكان (ثاني أكبر دولة في أوروبا، 44 مليون نسمة). عدا عن أن الزهو الأميركي (والغربي) المبكّر بانتصارٍ تحقّق على روسيا لن يأخذ بوتين إلى غير الغضب، وهذه مفردةٌ لا تتعلق هنا بشخصٍ خسر من احتيالٍ عليه في سمسرة شراء عقار، وإنما برجلٍ يتملّكه، وكذا ملايين من مواطنيه، شعورٌ مستحكمٌ بأن في مقدور روسيا أن تفعل ما لا نعرف من تعبيرات هذا الغضب، إذا استمرّ هذا التذاكي الأميركي عن الانتصار المفترض. وربما نسمع من بوتين اليوم الاثنين في خطابٍ مرتقبٍ ما قد يسنُد هذا القول .. ومؤدّى القول ومنتهاه: احذروا الاطمئنان إلى فرضية هزيمة روسيا. وتاليا، احذروا من روسيا إذا هُزمت حقا.