احتفالاً لا تحليلاً... أكتب بكامل الانحياز والدعم

12 أكتوبر 2023
+ الخط -

فاجأت المقاومة الفلسطينية الكل، سيما من لم يستوعبوا التطورات المتتابعة، وأحيانا بسذاجة شاركهم فيها المناصرون مع العدو مع أهل الحياد، لم يروا إلا الحصار واتفاقات التطبيع والاعتداءات الإسرائيلية اليومية وإرهاب المستوطنين والخيانات اللامتناهية والخرس الدولي الفاضح، فأوهمهم ذلك باقتراب انتهاء القضية الفلسطينية، كما ينتهي كل جميل وإنساني في حياتنا.

لم ير هؤلاء سيف القدس في موقعها الصحيح طفرة عسكرية أعادت رسم المعادلة حربيا وسياسيا، ودعائيا كذلك، بين العدو والمقاومة. لم يروا انخراط الضفّة الغربية، ليس بداية بـ"عرين الأسود" ولا انتهاءً بملحمة صدّ اقتحام جنين في يوليو/ تموز الماضي، ومحاولات إطلاق صواريخ من المخيّم ونابلس وغيرهما . لم يروا "غرفة العمليّات المشتركة" في غزّة انتقالاً إلى مرحلة جديدة في الصراع، لا كمجرّد مجموعات مسلحة محدودة بالسياق الجغرافي وبالقيادة الفكريّة/ التنظيميّة المباشرة وما يشوب ذلك من ضيق أفق ومحدوديّة حركة وغياب استراتيجيّة لـ"محور" في حرب أمام "محور". لم يروا خطاب المقاومة، كتائب عز الدين القسّام وسرايا القدس خصوصًا، الإعلامي إلى الداخل وإلى المحيط، أو حتى إلى العالم وإلى جمهور العدو، في البيانات والأفلام والمقاطع، ولا تطوّر لغتهم تأثيرًا في الداخل المحتل وتحريضًا له على حكومته. لم يروا هبّات الداخل المحتلّ التي أخلت مدنا وبلدان ومغتصبات (ولو سويعات) من كل محتلّ فيها، فقط بحجارة وهتاف وحقّ؛ إسنادًا للجبهة العسكريّة. لم يرَ أحدٌ، بمن فيهم العدوّ ومخابراته وأجهزة تجسّسه، تطوّرات المشهد وتراكمات المرحلة الجديدة من محاولات النجاة وتقليل الأضرار، ثم الدفاع، انتقالاً إلى الهجوم، الردع، المبادرة، وتحقيق الانتصارات الخاطفة الضخمة. لم يروا، أو سخروا حين رأوا، محاولات المقاومة شمالاً وجنوبًا، وهي تحاول إعادة ترسيم الحدود بزرع "جيوب تحرير" تحرّك الخطوط المحتلّة، ولو إلى مترين أو ثلاثة، بخيمة أو عائلة أو بضعة جنود، لبضع ساعات، ردًّا مماثلاً على توسيع دائرة الاستيطان وطرد أصحاب الأرض من دورهم ووطنهم بلا حدّ ولا توقّف.

ما نشهده اليوم نتيجة بدهيّة لبذور انتفاضيّة متتالية، وتكريسات، بطيئة لكن واثقة، وتحالفاتٍ متردّدة، متباينةٍ إلى أن تعزّزت حلفا استراتيجيا، بطول سني الاحتلال والمقاومة. نبتت هذه البذور وأزهرت، وها هي تثمر أخيرًا في صحراء واقعنا العربيّ البئيس. تحقّق النصر بالفعل، لنا، هذه المرّة، مزلزلاً كما كان خاطفًا، نحبس أنفاسنا ما زلنا، فرحًا بما تحقّق، وترقّبًا لآثاره الباقية طويلاً بعمر القادم من الصراع. لكنّنا، في الوقت ذاته، نجتهد لاستيعاب الدرس الجليل الذي لقّنته المقاومة وفلسطين لنا جميعًا، والذي لم نستوعبه بعد، لكننا لن نعود بعده كما كنّا قبله، لا نحن ولا العدو ولا السلطات في المحيط العربي كلّه.

لم يكن ما فعله الشهيد المصري محمد صلاح وقبله سليمان خاطر وعشرات من أصحاب البطولات الخالدة في تاريخنا وتاريخ الصراع، عابرًا ولا سطحيّ الأثر

إصرار رئيس حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي، نتنياهو، على التمسّك بالسلطة من دون حساب لشيء، بما في ذلك حساب الأمن القومي من نظره إلى دولته، ومجاراته من شركاء فساد، ومجاملة الجناح الأكثر تطرّفًا في التحالف الحكومي بإطلاق يدهم لتصفير المعادلة في مواجهة الشعب الفلسطيني، والمقاومة خصوصًا، نتيجة هذا كله ليست فقط سقوط هذه الحكومة، وتلقّيها خسارات مهينة، لكن أيضًا تحقيق خطوات جادّة وواثقة باتجاه سقوط الدولة بذاتها على يد المقاومة، عسكريّة وشعبية، وحتى بيد تفكّكها وانقسامها الداخلي.

رفض الحلول المنطقيّة/ الواقعيّة، وصفقة تبادل الأسرى التي عرضتها أو سعت إليها المقاومة في السنتين السابقتين، كان نتاجهما السعي إلى أسر عشرات على أقل تقدير، وسيكون الشرط الفلسطيني، لا الطلب هذه المرّة، غير محدود السقف في عدد الأسرى في سجون الاحتلال، أو في طبيعتهم .

لا شأن للوقوف في صفّ المقاومة الفلسطينيبة بالموقف من جرائم السلطات الداعمة أو المتحالفة معها بحقّ شعوبها

لم يكن ما فعله الشهيد المصري محمد صلاح وقبله سليمان خاطر وعشرات من أصحاب البطولات الخالدة في تاريخنا وتاريخ الصراع، عابرًا ولا سطحيّ الأثر. راجعوا كلمات قادة المقاومة وتعليقات الشارع الفلسطيني والعربي، لتدركوا أثر ذلك الإلهام في حياة الناس ومساراتهم، ومسارات الصراع بين الحقّ والباطل مطلقًا.

عدوّ غير قادر على حماية نفسه، ولا قيادته العسكريّة ولا "أمنه القومي"، رغم آلته الاستخباراتيّة والعسكريّة المرعبة وطاقة بطشه وتقتيله الهائلة، هل تظنّونه سيحمي أحدًا من السلطات الحاكمة في البلدان العربيّة ممن يستخدمهم ويخونون بلدانهم، ويسرقون مقدّرات شعوبهم لأجل عيونه؟

للذكرى أثرها الذي سينكشف شيئًا فشيئًا، لا في خطاب قيادة المقاومة وحدها، كما في بيانات حركتي حماس والجهاد، الذي يبدو فيه أثر حرب أكتوبر التي فات عليها خمسون عامًا، لكنّها ما زالت تُلهم توقيتًا وخطابًا ونصرًا، فلا معنى للوقت إلا إيجاد التراكم وتعتيق المعنى وإعادة صياغته بما يلائم الظرف واللحظة. وما فعلته كتائب عز الدين القسّام، في الخداع الاستراتيجي فترة ما قبل الحرب، وتصديرها صورة المتراجع الذي يعيد التموضع، سياسة لا مقاومة، خصوصا في أثناء المواجهات والاعتداءات على حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس. كان خداعًا ناجحًا إلى حدٍّ أوهم مثلي، وغيري كثيرون، أنهما في طريقهما ليصبحوا "فتح" الثانية، وهذا أسعد ظنّ ثبت خطؤه في حياتي.

لن يحقق أي نظام تابع خطوة باتجاه الحريّة والعدالة وحقوق الإنسان، إلا ادّعاءً وتحايلاً، وسيقدّم أي شيء، بما في ذلك الوطن

آن الأوان لإنهاء التنسيق الأمني وسلطة أوسلو تمامًا، من كل معادلة سياسيّة، وكلّ محاولة لشبهة تمثيل المعسكر الفلسطيني. سلطة تعتقل المقاومين وتفرّق المظاهرات، في هذه اللحظة التاريخية. وتسلّم معلوماتهم لجيش الاحتلال أو شرطته، ثم تدّعي تمثيلها "الحصري والوحيد" الشعب، لن تكون بعيدة عن أثر الزلزلة الحاصلة وسيطاولها الطوفان الذي يُغرِق أصدقاءهم الصهاينة اليوم أو غدًا.

وبالنظر في انحيازات السلطات في المنطقة، مثلا المساواة بين المحتلّ (وجريمته) أصحاب الأرض وردّ فعلهم ، ولعب دور الوسيط استجلابًا لموقع إقليمي مفقود، والقيام بمكان قبضة العدوّ المحاصِر لغزّة.....إلخ"، يتبيّن أن بوصلة جيل 25 يناير في مصر كانت ومازالت صحيحة، وأن أي معركة للتغيير لن تكون بغير الاستقلال الوطني كرأس حربة أهداف هذه المعركة، لن يحقق أي نظام تابع خطوة باتجاه الحريّة والعدالة وحقوق الإنسان، إلا ادّعاءً وتحايلاً، وسيقدّم أي شيء، بما في ذلك الوطن نفسه، لا مجرّد حقوق المواطنين وحريّاتهم وحيواتهم، للعدوّ، أو لأي مشترٍ يوهمهم بضمان بقائهم على الكرسي، ولو ليومٍ أو بعض يوم.

لا شأن للوقوف في صفّ المقاومة بالموقف من جرائم السلطات الداعمة أو المتحالفة معها بحقّ شعوبها. وهنا نناصر المقاومة والقضيّة أو نصطفّ معها انخراطًا كاملاً، وهناك نقف مع الشعوب المقهورة والمقموعة ونناضل معها كتفًا بكتف من أجل التغيير والحريّة والعدالة والحقوق. إلى هذا، لم يعد الحديث عن معركة التحرير خيالاً علميًّا، كما نُتّهم دومًا حين نتحدّث به، بل يمكننا القول، بثقة أو بوقاحة، إنّ تحرير فلسطين ممكن في هذا الجيل، وشواهد ذلك تتراكم وتتجلّى على الأرض لا في الأذهان والأحلام وحدها، ولن يعطّل ذلك تصاعد جرائم العدو والمحتلّين، ولا سيمنعه حصار أنظمة التطبيع المتسابقة على وحل الخيانة، ولا حتى الانتكاسة التي أصابت حراك التغيير، فشلّه عن تقديم الدعم والإسناد للمقاومة والشعب الفلسطيني.