احترموه كما لو كان عربياً
عاجزٌ عن التعايش مع عبارة الأمّ باولا: "عذّبوه كما لو كان مصرياً" على الرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على جريمة قتل الاستخبارات المصرية ابنها، جوليو ريجيني؛ ذلك أنّ هذه العبارة، في رأيي، تختزل عصراً عربياً كاملاً من علاقة النظم الحاكمة بشعوبها. وللتذكير، فإنّ ريجيني طالب وباحث إيطالي عثر على جثته مشوهة في صباح 3 فبراير/ شباط 2016 في منطقة صحراوية في مدينة 6 أكتوبر في القاهرة الكبرى. قاده سوء حظه العاثر إلى السفر إلى مصر لإجراء بحث في مجال دراساته، لكنّه وقع في براثن البوليسية المصرية التي ساورتها شكوك بشأن أغراض بحوثه، فاعتقلته ثم "أبادته" بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ كانت جثته مشوهة جرّاء تعذيب مروّع، اقتلعت خلاله أظافر يديه وقدميه. كما وجد في جسده أكثر من عشرين كسراً في العظام، من بينها سبعة في أضلاع الصدر، إضافة إلى لوحي كتفيه. وظهرت على الجثة طعنات متعدّدة في شتى أنحاء الجسد، وكان أنفه مشوهاً وكذلك أذناه. وظهرت آثار حرق بالسجائر شملت الجسم كله، وعلامات صعق كهربائي على أعضائه التناسلية، إضافة إلى حدوث نزيفٍ في الدماغ، وكسرٍ في فقرات العنق.
في المقابل، لا أدري كيف استطاع النظام المصري، بكلّ أركانه، التعايش مع عبارة والدة ريجيني، فلم يذُب خجلاً على الأقل، ولا ركض ليتوارى تحت أيّ سجادةٍ، كلما فتح ملفّ ريجيني الذي يبدو أنّه لن يغلق أبداً، خلافاً لأماني أجهزة المباحث المصرية التي اعتقدت أنّها مارست عملاً وظيفياً اعتيادياً، حتى وإن أفضى إلى وفاة الضحية في أثناء استجوابها، فهي على قناعةٍ بأنّ نسب الوفاة المسموح بها خلال التحقيقات التي تجريها تتجاوز مائة في المائة إن استدعى الأمر.
ما يعنيني من كلّ ما سبق عبارة الأم التي صدرت عفويةً من لسانها، لكنّها جاءت معبّرة بحق عن عبقرية البسطاء التي تضارع إن لم تتفوق على كثير من عبارات الفلاسفة أحياناً، ربما لأنّها تأتي صادقة ومستوحاة من رحم الألم الحقيقي، لا سيما أنّ الأم لم تتعرّف على جثة ابنها إلّا من خلال أرنبة أنفه، كما صرحت لوسائل الإعلام. ومن سوء طالعنا، أنّ العبارة قيلت بحقنا - نحن العرب - لتطاردنا وصمة عار أبدية، ما لم تتغير طبيعة النظم السياسية والاجتماعية في بلادنا.
ومن السخف أن يساورنا أدنى اعتقاد أنّ العبارة تلك تصف الأجهزة الأمنية المصرية وحدها، بل هي شاملة عامة، تنسحب على معظم النظم العربية الحاكمة التي لا تقيم وزناً لحياة إنسانها. لكنّ المعضلة عندما يلتبس القتيل على القاتل، فيحدث خطأ ما، على غرار ما حصل مع ريجيني الذي يحمل الجنسية الإيطالية، فتغدو الفرصة سانحةً للكشف، لا عن القاتل والقتيل، بل عن منظومة قمع كاملة بفلسفتها، وأدواتها، وطريقة تفكيرها، واستهانتها بالروح البشرية.
لم يغلق ملف جريمة طالب الدكتوراه في كلية جيرتون في جامعة كامبريدج، والباحث في مواضيع اتحادات العمال المستقلة، جوليو ريجيني. وكلما فتح تابوته بظهور دليل جديد، أو لإعادة إحياء القضية في بلده الأم، وأمه البلد، تنبعث لعنة فرعونية مضادّة للعنة المنبعثة من مقبرة توت عنخ آمون لتضرب فراعنة العرب الجدد قاطبة، وتُفاقم النقمة عليهم، وتفضح جرائمهم المشينة.
وعلى طرف مقابل، تدين العبارة نفسها ضحايا الأنظمة العربية الذين لم يخرجوا بعد من دائرة الضحية، على الرغم من مرور قرن من حشرهم في هذه الدائرة الدموية المغلقة؛ بينما ما زالت أعناقهم محنية في حضرة السيف، وظهورهم تستقبل السياط بخنوع. أما عظمة هذه العبارة فلأنّها أخرجت الجلاد والضحية من هذه الدائرة، وأخضعتهما لمحكمة محايدة لن ترحم أحدًا منهما ما دامت العلاقة قائمةً بينهما على الطغيان والخضوع، بانتظار أن تنسخها عبارة جديدة قوامها: "احترموه كما لو كان عربياً".