اتفاق أوسلو في ذكراه الـ31: السياقات والمضامين والمآلات
اكتملت في 13 سبتمبر/ أيلول الجاري، 31 عاماً على توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، والذي اشتهر باتفاق أوسلو (1993). وتتزامن ذكراه هذه السنة مع حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزّة منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بتواطؤ غربي مكشوف وخذلانٍ عربي مرعب. ولا يكاد يتوقف قادةُ اليمين المتطرّف في إسرائيل عن التذكير بأن الاتفاق كان ''أكبر كارثة في تاريخ إسرائيل''. كما صرّح رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أكثر من مرة، أنه ''لن يسمح بالعودة إلى الاتفاق الذي كان خطأ فادحاً''. وبذلك تكون هذه الحربُ قد حرّرت نتنياهو، وغيرَه من قادة اليمين الإسرائيلي المتطرّف، من إرث اتفاق أوسلو، الذي حمل في مقتضياته بذورَ إمكانية تحقُّق حل الدولتين، وكشفتْ عنصريةَ اليمين الإسرائيلي وفاشيتَه، وأعادت إلى الواجهة الطبيعة الاستيطانية والاستعمارية للمشروع الصهيوني.
وقَّع الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، ورئيسُ الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، ''اتفاقَ إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي.. ''، في البيت الأبيض في واشنطن، بعد شهور من التفاوض في العاصمة النرويجية بين منظّمة التحرير وإسرائيل. كان الاتفاق لحظة فاصلة في مسار القضية الفلسطينية، بالنظر إلى ما ترتّب عليه من نتائج وتداعيات في الإقليم.
اندرج الاتفاق ضمن سياق إقليمي ودولي، فعلى الصعيد الفلسطيني، كان خروج منظّمة التحرير من بيروت (1982)، عقب الاجتياح الإسرائيلي، نهاية مرحلة وبداية أخرى. فلأول مرة، تفقد المنظّمة ورقةَ التماس الجغرافي المباشر مع فلسطين. وهي الورقة، التي كانت، لها، مورداً سياسياً وميدانياً في مواجهة إسرائيل. وبانتقال قيادتها إلى تونس، وتوزُّعِ كوادرها ومقاتليها على عدة دول عربية، ستشهد القضية الفلسطينية انسداداً سياسياً إبّان السنوات التي أعقبت الغزو الإسرائيلي للبنان. هذا الانسداد، سرعان ما سيتبدد مع اندلاع شرارة الانتفاضة الأولى نهاية 1987.
كانت فرصُ إنقاذ "أوسلو" تتضاءل أمام تنصل إسرائيل من التزاماتها، وتغوُّلِها أمنياً واستيطانياً
تزامن وصول الانتفاضة الأولى إلى سقفها مع ظروف إقليمية ودولية جديدة، فعلى الصعيد الإقليمي، فاقم الغزوُ العراقي الكويت (1990) أزمة النظام الإقليمي العربي المتهالك. وجاءت حرب الخليج الثانية (1991) لتضع مسماراً آخر في نعشه، بعد أن أخفقت الدول العربية في التوصل إلى موقف موحد بشأن الأزمة. وكانت منظّمة التحرير أكبر الخاسرين بتأييدها الموقف العراقي. فتعرّضت بذلك لعزلةٍ وحصار مالي وسياسي من دول الخليج، ما قلص هامشَ الحركة أمامها، وأثّر في انعطافها نحو مسار التسوية الذي بدأ في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط (1991) وصولاً إلى "اتفاق أوسلو".
على الصعيد الدولي، كانت الحرب الباردة قد وضعت أوزارها بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي. فاختلّت موازين القوى التي تشكلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدأت ملامح نظامٍ دولي جديدٍ تتشكل، عنوانه العريضُ الأحادية القطبية مُمثَّلةً في صعود الولايات المتحدة قوةً عظمَى بلا منازع. وقد أفسح ذلك المجالَ أمامها لإعادة بناء موازين القوى الدولية والإقليمية، وتوجيهها وفق مصالحها الاستراتيجية. وهو ما صبَّ، من ثم، في مصلحة إسرائيل حليفتها الأولى في الإقليم. هذا الوضع مكّن الولايات المتحدة من فرض رؤيتها إلى الصراع والمسارات التي قد تفضي إلى حله بما يضمن تفوّق إسرائيل، وذلك بتأكيدها ضرورة توصل الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلى تسويةٍ متوافقٍ عليها، لا تستند، بالضرورة إلى مقتضيات الشرعية الدولية.
مضامين الاتفاق
تضمّن اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل 17 بنداً وأربعة ملاحق. ولعل ما يلفت الانتباه ما جاء في مقدمته بشأن اتفاق الطرفين على أنه ''آن الأوان لوضع حدٍّ لعقود من المواجهات (..)، والاعتراف المتبادل بحقوقهما السياسية والمشروعة، وتحقيق التعايش السلمي والكرامة والأمن بشكل متبادل، والتوصل إلى تسويةٍ عادلةٍ وشاملةٍ ودائمة (...)''. ولم يكن ذلك فقط ترسيماً لاعتراف منظّمة التحرير بشرعية دولة الاحتلال وحقها في الوجود، بل أيضاً اعترافاً منها بأن فلسطين التاريخية أرض متنازعٌ عليها بين الطرفين، وليست أرضاً اغتصبتها الحركة الصهيونية من أصحابها الشرعيين بتواطؤ غربي.
نصّ الاتفاق في بنده الأول على ''تأسيس سلطة فلسطينية انتقالية في الضفة الغربية وقطاع غزة (..) خلال فترة انتقالية لا تتعدّى خمس سنوات، تُفضي إلى تسوية نهائية مبنيةٍ على أساس قراريْ مجلس الأمن 242 و338.'' وعلى الرغم من الإحالة على القراريْن، إلا أن البنية المؤسّسية للسلطة الوطنية الفلسطينية، كما هي في الاتفاق، تحيل إلى حكم ذاتي محدود تحت وصاية الاحتلال الإسرائيلي، من دون تحديد أي منظور زمني للتحوّل نحو دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس، هذا فضلاً عن بقاء المحاور الكبرى للقضية عالقةً، وفي مقدمتها حدودُ هذه الدولة والقدسُ واللاجئون والمستوطنات.
أعقبت اتفاقَ أوسلو اتفاقاتٌ تفصيليةٌ مكملة له، أبرزها ''بروتوكول باريس الاقتصادي'' الموقّع في 29 إبريل/ نيسان (1994)، الذي وضع إطاراً عاماً للعلاقات الاقتصادية بين الطرفين، و''اتفاق القاهرة'' الموقع في أغسطس/ آب (1994) بشأن نقل السلطة المدنية من إسرائيل إلى السلطة الوطنية الفلسطينية. ثم اتفاق طابا (أوسلو 2) الموقع في 28 سبتمبر/ أيلول 1995، الذي تضمن بنوداً وملاحق، أهمها تنظيم انتخابات تشريعية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ونقلُ السلطة المدنية من إسرائيل إلى المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب، وتقسيمُ الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، مع احتفاظ إسرائيل بكل ما يتعلق بالحدود والأمن القومي والقدس والمستوطنات: منطقة ''أ''، وتخضع بالكامل للسلطة الوطنية الفلسطينية ومساحتها حوالي 21% من الضفة الغربية. منطقة ''ب'' وتخضع مدنياً للسلطة الفلسطينية وأمنياً لإسرائيل، مساحتها حوالي 18% من الضفة الغربية. منطقة ''ج''، والتي تمثل حوالي 61% من الضفة الغربية وتخضع بالكامل لإسرائيل.
ومن أكثر البنود دلالة، في اتفاق طابا، البند 15 الذي نصّ على أنْ ''يأخذ الطرفان التدابير الضرورية لمنع أعمال الإرهاب والجريمة والعدوان الموجهة ضد الطرف الآخر، أو ضد أفرادٍ واقعين تحت سلطة الطرف الآخر وضد ممتلكاتهم''. وقد رتّب هذا البند التزاماً سياسياً صريحاً، تلتزم بمقتضاه السلطةُ الوطنيةُ الفلسطينيةُ بمنع أي أعمال مقاومة تستهدف إسرائيل. كان ذلك الالتزام بمثابة البذرة الأولى للانقسام بين حركة فتح والحركات الإسلامية الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس، التي سيشكل اتفاق أوسلو منعرجاً مفصلياً في تجذير تبنّيها خيار المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين.
حصيلة بلا حلّ عادل
على الرغم من أن اتفاق أوسلو لم يحمل بوادر حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية، ظل قطاع من النخبة الفلسطينية يعتبره أقصى ما يمكن أن يحققه الفلسطينيون في الظروف الإقليمية والدولية السائدة. فلأول مرة، وفق هذا المنظور، ينجح الفلسطينيون في جرّ إسرائيل إلى التوقيع على اتفاق يسمح لهم بالدخول إلى الأراضي المحتلة، وإقامة كيان سياسي على جزء من هذه الأراضي، على درب تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة في العام 1967 وعاصمتها القدس.
وإذا كان اتفاق أوسلو قد أكّد، من الناحية القانونية الشكلية، أن التسوية بين الطرفين تستمدُّ مرجعيتها من الشرعية الدولية التي يحيل إليها قرارَا مجلس الأمن 242 و338، فقد كان واضحاً، منذ البداية، أن السلطة الوطنية الفلسطينية عاجزة، بحكم بنيتها وارتباطها العضوي بإسرائيل، عن التحوّل إلى دولة مستقلة. صحيح أن الاتفاق أتاح للفلسطينيين إقامة منظومة سياسية وأمنية وإدارية وخدماتية واقتصادية واجتماعية في أراضي الحكم الذاتي، إلا أن ذلك كله بقي تحت وصاية الاحتلال ووفق أولوياته الأمنية والسياسية. وبالأخص في ما يتعلق بالشأن الاقتصادي، إذ بقي الاقتصاد الفلسطيني مرتبطاً بالاقتصاد الإسرائيلي. ومن ذلك مرورُ حركة التجارة الفلسطينية مع الخارج، بحكم الأمر الواقع، عبر المعابر الحدودية والجمركية التي تسيطر عليها إسرائيل.
وأنتجت تركيبة السلطة الوطنية شبكات مصالح ونفوذ حوْل أجهزتها السياسية والأمنية، ما ساعد على تفشي الفساد الإداري والاقتصادي. كانت هذه الشبكات حريصة على الحفاظ على السلطة وتركيبتها، أولاً، بالعمل على استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال، لأن ذلك في ما يخصها عائدٌ سياسي واقتصادي يخدم مصالحها، وثانياً بالتضييق على مجموعات المقاومة في الضفة الغربية. وحوّل هذا الوضع السلطة الفلسطينية إلى سلطويةٍ لا تختلف، كثيراً، في استبدادها وفسادها عن السلطويات العربية.
كان الفلسطينيون الخاسر الأكبر من اتفاق أوسلو، وازداد المشهد قتامة مع فصل الاحتلال قطاعَ غزّة عن الضفة ومحاصرته
من ناحية أخرى، شكل الاتفاق البذرة الأولى للانقسام الفلسطيني الذي سيصبح، مع انصرام السنوات، عنواناً رئيساً لإخفاق الفلسطينيين في البحث عن بدائل تُبقي قضيتهم ضمن الأولويات الإقليمية والدولية. فقد فشلت حركة فتح في إقناع الفصائل المعارضة مسار التسوية بجدوى التخلي عن طروحاتها الراديكالية، وفي مقدمتها رفض الاعتراف بإسرائيل والتخلي عن تحرير فلسطين كاملةً. وظلت تعتبر هذه الفصائلَ غير واقعية في طروحاتها، بالنظر إلى ميزان القوى الذي يستوجب، من منظورها طبعاً، تقديم تنازلاتٍ حتى لو كانت مؤلمة، تُتيح فتح آفاق أمام القضية الفلسطينية، وتحديداً في ما يتعلق بتحقيق حلم الدولة الفلسطينية. وفي المقابل، اعتبرت الفصائل المعارضة (حركة حماس، حركة الجهاد الإسلامي، الجبهتان الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين..) اتفاق أوسلو، وما ترتب عنه خيانةً لتضحيات الشعب الفلسطيني وخروجاً عن الإجماع الوطني.
وضعت المتغيرات التي حملها مطلع الألفية الجديدة الاتفاق ومؤيديه، فلسطينياً وعربياً، أمام مأزق حقيقي. فقد فشلت مفاوضات كامب ديفيد (يوليو/ تموز 2000) بعد رفض إسرائيل التخلي عن القدس. وكانت زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، أرْييل شارون، إلى المسجد الأقصى (28 سبتمبر/ أيلول 2000) النقطة التي أفاضت الكأس عند الفلسطينيين. فاندلعت انتفاضة الأقصى ردّ فعل شعبياً على إخفاق الجناح المؤيد لخيار التسوية داخل منظمة التحرير، في الدفع بقطار هذه التسوية باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وبدا واضحاً أن الطرف الإسرائيلي غير مستعد للانخراط في البحث عن حل عادل للصراع، بعد أن أعاد احتلال كثير من الأراضي التي كانت خاضعة للسلطة في الضفة الغربية.
كانت فرصُ إنقاذ اتفاق أوسلو تتضاءل بمرور السنوات، أمام تنصل إسرائيل من التزاماتها، وتغوُّلِها الأمني، وذهابِها بعيداً في سياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة والتقتيل وتدمير البيوت. وكان لذلك بالغ الأثر على المشروع الوطني الفلسطيني الذي فقد بوصلته، ولا سيما بعد رحيل ياسر عرفات (2004) وغياب قيادة بديلة، قادرة على إعادة صياغة أولوياته وفق المتغيرات الحاصلة في الإقليم والعالم. فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية نقطة التوازن بين مكوناتها الوطنية والإسلامية، في ظل تنازع الشرعيات والانقسام الذي بات واقعاً سياسياً بوجود كيانين سياسيين: السلطة الوطنية في الضفة الغربية تحت إدارة حركة فتح، وحكومة قطاع غزّة تحت إدارة حركة حماس.
كان الطرف الفلسطيني أكبر خاسر من اتفاق أوسلو. فحركة فتح، التي تحمّلت مسؤولية التوقيع على الاتفاق والاعتراف بشرعية الاحتلال، وجدت نفسها أمام مأزق كبير، فلا هي في مقدورها العودة إلى ما قبل 1993، بالنظر إلى التحولات التي شهدها الإقليم، ولا هي تملك أوراقاً تُمكِّنها من إقناع القوى الدولية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بتسويةٍ تضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة (1967). وازداد المشهد الفلسطيني قتامة مع فصل الاحتلال قطاعَ غزّة عن الضفة الغربية وإحكامِ حصار شامل عليه.
نجحت إسرائيل في حيازة اعتراف منظّمة التحرير بالشرعية القانونية والسياسية والأخلاقية لوجودها وبقائها. ومنحها ذلك هامشاً للمناورة، فتمادت في سياساتها العنصرية تجاه الفلسطينيين، بصورة أجهضت أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة من الناحية الجغرافية، مستغلةً، في ذلك، تسارعَ وتيرة التطبيع العربي الإسرائيلي التي بلغت أوجها مع الاتفاقات الإبراهيمية.
مآلات بعد حرب غزّة
أصاب الهجوم الذي نفّذته المقاومة الفلسطينية على إسرائيل، في 7 أكتوبر (2023)، المجتمع الإسرائيلي في العمق. فلأول مرّة، منذ عقود، يستدعي الوعي الإسرائيلي قضايا الشتات، والهوية، ومستقبل الدولة. وفقدت العقيدة الأمنية الإسرائيلية سطوتها بصورة لم تكن متوقعة، وباتت ''القدرة على الردع'' محط مساءلة من فئات واسعة من الإسرائيليين. وتعزّز ذلك في فشل قوات الاحتلال، على مدار الشهور المنصرمة، في تحرير المحتجزين الإسرائيليين واستئصال شأفة المقاومة في قطاع غزّة.
غذّى ذاك كلُّهُ خطاب اليمين المتطرّف في إسرائيل، الذي اعتبر أن ما حدث في 7 أكتوبر نتيجة حتمية لاتفاق أوسلو الذي سمح للفلسطينيين بالحصول على أراضي الحكم الذاتي وتهديد الأمن القومي الإسرائيلي. ولذلك، آن الأوان لإعادة النظر في الاتفاق الذي بات، وفق هذا الخطاب، عبئاً سياسياً وأمنياً واستراتيجياً يهدّد وجودَ إسرائيل ومستقبلها.
فلسطينياً، بعد 31 عاماً على اتفاق أوسلو، يجد الشعب الفلسطيني نفسه في مفترق طرق مفصلي، فلم يعد الأمر يقتصر على استعادة إسرائيل أراضيَ كانت تحت سيطرة السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاق، وإنما أيضاً بوضعها مخططاتٍ طويلةَ الأمد لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، ورفضها التخلي عن القدس، واستهدافها المتواصل المسجد الأقصى. وبلغ ذلك ذروته بشنّ دولة الاحتلال حرب إبادة ممنهجة على قطاع غزّة راح ضحيتها 41 ألف فلسطيني، فضلاً عن عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين والنازحين.
لم يحمل "أوسلو" بوادر حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية، واعتبره قطاع من النخبة أقصى ما يمكن تحقيقه في الظروف السائدة
أحدث طوفان الأقصى وحرب غزّة شعوراً عاماً داخل إسرائيل، ولدى قطاع واسع من الفلسطينيين، في الداخل والشتات، بوصول اتفاق أوسلو إلى نهايته. ومع احتمال تفجُّر الوضع في الضفة الغربية في أي لحظة، تجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام مأزق حقيقي، في ظل عجزها عن اتخاد موقف وطني واضح إزاء حرب الإبادة في غزّة. وبذلك تنضاف إلى الطابور العربي الخامس تاركة المدنيين العزّل يواجهون مصيرهم المأساوي. ومع تزايد حدّة الاحتقان في الضفة على خلفية ما يحدُث في غزة، تتفاقم أزمة الشرعية لديها، إذ ترى أن انسحابها من ''أوسلو''، خصوصاً في شقه الأمني، وسحبَ اعترافها بإسرائيل ستكون له أثمان باهظة على بنيتها المؤسّسية والخدماتية. لا ينفصل هذا الوضع الذي صارت إليه السلطة عما شهدته حركة فتح من تحوّلات، أبرزها أفول أبرز وجوه الجيل المؤسس، وبروز مجموعات فتحاوية لا تتبنى فقط خطاب المقاومة في مواجهة الصلف الإسرائيلي، بل صارت مصدر حرج لقيادة الحركة التي تجد نفسها يوماً بعد يوم في موقفٍ لا تحسد عليه، مع افتقادها بدائل لتجاوز تداعيات الزلزال الذي أحدثته حرب غزّة على غير صعيد.
تبدو السلطة، اليوم، أمام لحظة مفصلية تخصّ خياراتها وأولوياتها مع انعطاف الدولة والنخب والمجتمع في إسرائيل نحو اليمين المتطرّف، وصعود الصهيونية الدينية التي باتت تربط وجودها بمنع إقامة دولة فلسطينية. وكان لافتاً تصريح وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، قبل أيام، بأن مهمته في الحياة إحباطُ إقامة هذه الدولة. ما قد يعني أن خيار التسوية، الذي يجد جذوره في اتفاق أوسلو والمبني على حلّ الدولتين، بات غير ممكن من الناحية العملية، على الأقل ضمن المنظور المتوسّط، بعد أن نقلت إسرائيل الصراع إلى طوْر غير مسبوق بشنها حربَ إبادة جماعية ممنهجة في غزّة، بغطاء أميركي وغربي وتواطؤ عربي.
تثير الحملة العسكرية التي تشنها قوات الاحتلال، في أكثر من مدينة وبلدة في الضفة الغربية، مخاوف السلطة، ذلك أن اتساعَ رقعتها، بالتوازي مع تصاعد وتيرة العمليات التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية ردّاً على ذلك، قد يُعجّل بوضع خيار تفكيك أجهزة السلطة ومؤسّساتها الأمنية والإدارية على طاولة حكومة نتنياهو. قد يبدو هذا السيناريو مستبعداً. لكن إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب على غزّة، ومماطلتَه في التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى، واستمرار المواجهات بين المقاومة وقوات الاحتلال في الضفة الغربية، ذلك كله قد يخرج الأوضاع عن السيطرة، بما لا يدع هامشاً للحركة أمام حكومة محمود عبّاس في رام الله.