اتفاقية تحسّن توقعات اللبنانيين الإيجابية
ساعات على إعلان الاتفاق على مسودة الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، سارع الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى الاتصال بالرئيس اللبناني، ميشال عون، مهنئاً، وبرئيس الحكومة الإسرائيلية، يئير لبيد، مشدّداً على أن "أميركا تضمن أمن إسرائيل"، ما يعني رسالة انضباط، وضغط على واقع الترسيم بين الطرفين. اكتسب الاتفاق صفة "التاريخي"، وقد وصل أخيراً إلى نهاياته السعيدة، إلى درجة "الفرح والتصفيق، وأكل العنب" (أمين عام حزب الله حسن نصرالله ). وقد جاء إعلان التوصل إلى الاتفاق، بعد ربع قرن على ورش بحثية عن الثروة النفطية في لبنان، أنجزت منذ عقود، وبعد إعلان لبنان رسمياً "دولة نفطية" في العام 2000، وملاحظات متبادلة في الترسيم في العام 2017، لاقت تشويشاً من الجانبين، وأرفقت بتهديدات بالحرب. وقد تكثفت الوساطة الأميركية أخيراً بعوامل مساعدة خارجية تسبّبت بها الأزمة الأوكرانية، ورغبة وحاجة أوروبية لغاز الشرق الأوسط، يعوّض عليها الغاز الروسي. لعبة تغيير سياسي في المنطقة لتحقيق إنجاز أميركي نجح في التقريب بين الطرفين. عدا عن أن الاتفاق بشأن الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قد يمهد لاتفاق مماثل بين إسرائيل وقبرص بشأن حقل أفروديت. وفي أي حال، هو يفتح صفحة جيوسياسية جديدة للبنان والمنطقة، يؤمن شيئاً من الحماية لجنوب لبنان، لأنه بات لجميع الأطراف ما تخسره في حال حصول تصعيد عسكري. ذهب الجانب الإسرائيلي إلى التأكيد على "تأمين مصالحه الأمنية والسياسية".
معارضة سياسية مدنية لبنانية تتهم السلطة السياسية بالتواطؤ، وتتوعد بمقاضاة الرئاسات الثلاث، لتنازلها عن الخط 29
وقد ذُكر أن جولة أخيرة من المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين، اللبناني والإسرائيلي، قد تعقد في الناقورة، بعد زيارة الوسيط الأميركي، هوكشتاين، بيروت، لتسليم عرض الاتفاق. فيما تأمل الحكومة الاسرائيلية تمرير الاتفاق بلا عراقيل في الكنيست، ليصبح ناجزاً قبل الانتخابات مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني. ويبدأ ضخّ الغاز فوراً من حقل كاريش. وكما لا تزال المعارضة الإسرائيلية تتهم الحكومة بالتخلي عن مساحات سيادية في اتفاقية الترسيم، فإن معارضة سياسية مدنية لبنانية تتهم السلطة السياسية بالتواطؤ، وتتوعد بمقاضاة الرئاسات الثلاث، لتنازلها عن الخط 29. في النهاية، جرى التوصل إلى مفصل إيجابي في الصراع اللبناني/ الإسرائيلي. لدى إسرائيل ما تكسبه منه، في حين أن محاولة تجنب التوقيع في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي تزيد من احتمالية الصراع مع حزب الله الذي وقع بدوره في حلقة الضمانات الأمنية التي أكدها بايدن لإسرائيل، وبغطاء أوروبي شامل.
سيشكل الاتفاق رادعاً اقتصادياً واستراتيجياً، ذلك أن قرب حقل كاريش من حقل قانا اللبناني سوف يمنع هذا الطرف أو ذاك القيام بهجوم، ما يعني أنه لم يعد بالإمكان استغلال هذه المنطقة لأغراض عسكرية، أو ما يعني أن الأنظار ستتركز مجدّدا على الحزب، إذا ما حاول، لأي سبب كان، خرق هذه الاتفاقية التي تحمل إمكانات كبيرة للتطبيع، تجاوزا للناحية القانونية التي تحظى بمعارضة في البلدين، وبمواقف أيديولوجية مختلفة على ضفة المتحاربين. هجوم نتنياهو على الاتفاق (اعتبرته الإدارة الأميركية غير مسؤول)، فليس أمن إسرائيل ما يهم نتنياهو، بل المكاسب السياسية التي سيجنيها من الخلاف مع لبيد، ولكن هذه الخلافات الشكلية وضعت جانبا في الممرّات الضيقة. وقد أنجزت الاتفاقية لتكون الأفضل للجميع، وقد لا تسمح بعودة أحد الطرفين عنها، لجهة عدم التوقيع، أو التورّط باشتباك عسكري، فيما تنقل مصادر عن حزب الله أن "إنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة لا يعني أن البلاد ستدخل في مرحلة مستقرّة، بل على العكس، الأميركيون والإسرائيليون مستمرّون في مخططهم ضد حزب الله، وأن هناك معطيات تؤكد على خطورة المرحلة المقبلة".
الاتفاقية تحرم حزب الله من التصعيد مرحليا
نصت الاتفاقية على تنازلات متبادلة. تحدّث الجانب الإسرائيلي عن ترسيم الحدود على الخط الشمالي المسمّى خط 1، طالب اللبنانيون بخط جنوبي أكبر، خط عرض 23 جنوباً. تحدّث الأميركي عن تقسيم الفرق بشكل متساو تقريبا. ذهبت الحكومة اللبنانية إلى مدى تفاوضي أبعد عند خط العرض 29، الذي كان سيعطي لبنان مطالبة بالملكية الجزئية لمخزون غاز حقل كاريش. وفي النهاية، سحبت التسوية الأميركية اعترافا لبنانيا بالخط 23. في المقابل، لا تشكّل الاتفاقية تنازلاً إسرائيلياً عن أراض سيادية، حتى لا توجد دولة لديها سيادة على مياهها الاقتصادية منذ البداية. إذن الاتفاقية تحرم حزب الله من التصعيد مرحليا. وفي حين يجري عرض الاتفاقية على الكنيست، وتكشف تفاصيلها أمام الجمهور، ويظهر نص الصيغة النهائية وبنودها الرئيسية أن الغموض يلف الجبهة الأخرى اللبنانية. وقد لا يتم التصويت عليها في مجلس الرئيس نبيه بري (مرغم أخاك لا بطل)، وبدفع لرفض مناقشتها من جبران باسيل وتياره العوني، فيما محرّكات إنيرجين ستدار للحفر نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بمعزل عن حجج نتنياهو والليكود أن الاتفاق "يشكل خطّا استراتيجيا، واستسلاما لحزب الله ولحسن نصرالله".
تقدّم الاتفاقية فائدة استراتيجية للبنان (محتملة) للحفاظ على السلام، ومن المفترض أن تمنحه فرصة التنقيب عن حقول الغاز الأخرى. .. وأصلاً، لم يدُس نتنياهو يوما على أصابع قدم نصرالله، واختار سياسة ضبط النفس، واستحدث مسرحية صيف 2020، بالامتناع عن ضرب خلية حزب الله التي تجاوزت الحدود، مرّة بالتغاضي عن منصة إطلاق صواريخ للحزب العام 2019. وعندما أظهر مرونة في صفقة بيع ألمانيا غواصات متقدّمة لمصر، وبيع طائرات إف 35 للامارات، بدت تصريحاته أقرب إلى روايات الخيال العلمي، ولكن ثروات الطاقة تبقى حلما بعيد المنال لسنوات بالنسبة الى اللبنانيين، وحزب الله مثل إسرائيل مستمر في اللعبة.
تقدّم اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل فائدة استراتيجية للبنان (محتملة) للحفاظ على السلام
ومن الممكن أن تتيح الاتفاقية أعذاراً للحفاظ على النار المطفأة إقليمياً مع إيران، وتوسعة لأعمال نظرية المجال الأوسع للإمساك بالمسألة الاجتماعية (كيرت ليفين)، وتوسعة نظرية الدور في التحكم بواردات الغاز مستقبلاً. ثمّ قد تكون الاتفاقية فرصة للبنان للانتهاء من ترسيم الحدود البرّية، وبمؤشّرات الاستقرار، واستفادة خزينة الدولة بعد إصلاحها. لم يعد لدى لبنان الكثير، غير بديل الترسيم الذي يحسّن التوقعات الإيجابية، إلا أن النتائج الاقتصادية ليست آنية، وهي مشروطة بالتصدّي لمافيا كارتيلات الثروات الضخمة، وتطهير النظام المالي للبلاد وإصلاحه، وبطريقة التوزيع وتشجيع الإنتاج. ثمّ إن لبنان ليس نسخة نفطية عن الخليج، هناك إدارة لا تتحكّم بها الطبقة السياسية، وحوكمة رشيدة، وكفاءات قديرة من جامعات كبرى تدير القطاع، ونظام توزيع أكثر سخاءً مع حاجات الشعب.
دول الخليج وأخرى غربية (النرويج)، تنمو مع خطط تنموية وصناديق سيادية من دون مشكلات. المهم معرفة ما إذا كان الاتفاق سيفيد اللبنانيين، فالترسيم يمكن أن يتحول إلى كارثة تفقد لبنان آخر ما لديه، فتتحول الاتفاقية إلى ورثة خيالية بفوائض مافياوزية وإقطاعية جديدة، يضاف إليها عامل شديد الحساسية، أن توظف إيران ومليشياتها إنجاز الترسيم، لتقدم نفسها عامل استقرار، لا عامل فوضى، وهي بديل عن الدولة، وتقدّم ما لم تقدّمه الأخيرة.