إيران في مواجهة الغزو الروسي لمفاوضات فيينا
بعد 11 شهرًا من المفاوضات المتقطعة في فيينا، اقترب المتفاوضون كثيرا من التوصل إلى اتفاق معدّل تعود بموجبه كل من إيران والولايات المتحدة إلى الامتثال بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة" (اتفاق 2015)، من خلال التراجع عن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بعد انسحابها من الاتفاق في 2018، والتقدّم الذي حققته إيران لاحقًا في برنامجها النووي، ردًا على العقوبات الأميركية. لكن المحادثات اهتزّت في اللحظات الأخيرة بعد سعي موسكو إلى أخذ "الاتفاق النووي" رهينة في معركتها الأوسع مع الغرب في أوكرانيا، عبر مطالبتها بضماناتٍ مكتوبةٍ بإعفاء تجارتها الاقتصادية مع إيران من العقوبات الأميركية المفروضة عليها منذ غزوها أوكرانيا. وأخيرا، صرّح مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بأن هناك حاجة إلى توقف مفاوضات فيينا بسبب "عوامل خارجية"، ما يعني أنه بات على الدبلوماسية اليوم التعامل مع محاولات روسيا، إما الانقلاب على الاتفاق أو استخدام المحادثات ورقة مساومة لانتزاع تنازلاتٍ من الغرب بشأن العقوبات المتعلقة بأوكرانيا.
رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن العقوبات الصارمة التي مضى الغرب يقصف بها جبهة الاقتصاد الروسي تحتم على موسكو أن تطالب الولايات المتحدة أولا بضمانات بأن العقوبات الجديدة لن تؤثر على حقوقها في التجارة والاقتصاد والاستثمارات الحرّة والكاملة، والتعاون العسكري التقني مع إيران، بموجب الاتفاق النووي. وفي اتصاله بوزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أكد لافروف أن إحياء الاتفاق النووي لا بد أن تصاحبه ضمانات أميركية بأن يتمتّع جميع المشاركين فيه بحقوق متساوية فيما يتعلق بتطوير التعاون من دون عوائق في جميع المجالات. ولم يكن مفاجئا أن يسارع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى رفض المطلب الروسي، سيما أنه يفتح ثغرة واسعة في جدار العقوبات الصلب الذي تحاول الولايات المتحدة والغرب تشييده بأقصى ارتفاع ممكن حول روسيا، عقابا لها على غزوها أوكرانيا. وأكد بلينكن أن مطالب روسيا مرفوضة لأنها "غير ذات صلة"، والعقوبات المفروضة بعد غزو أوكرانيا "لا علاقة لها بالاتفاق النووي الإيراني".
"الاتفاق النووي" الإيراني أصبح ضحية تناقضٍ حقيقي بين مصلحة روسيا منذ فترة طويلة في احتواء برنامج طهران النووي ومصالح روسيا "الجديدة" بعد اجتياحها أوكرانيا
خلال الأسابيع القليلة الماضية، سارع المتفاوضون للوصول إلى خط النهاية، مدركين أن الحرب الروسية في أوكرانيا تشكّل تهديدًا للمحادثات الحسّاسة، وكانت الدلائل تشير إلى استعداد الغرب لتحييد أكبر عدد ممكن من نقاط الخلاف لصالح إبرام الاتفاق، وأملا في إنجاز اتفاق وشيك، ألغى المتفاوضون مواعيد نهائية عديدة مفترضة في مسار طويل من المحادثات حول سبل إعادة الحياة إلى الاتفاق، ليدور حديثٌ عن الانتهاء من مسودة الوثيقة (20 صفحة) باستثناء تعديلات تحريرية صغيرة. وبرزت مؤشّرات على حلول وسط بشأن الطلب الإيراني المثير للجدل، بإخراج الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب الأميركية؛ "الخط الأحمر" الأعرض الذي ترفض إيران التنازل عنه، إلا أن موسكو كان لها رأي آخر. فوجئت إيران بالخطوة الروسية، واشتكى مسؤولوها لوسائل إعلام إيرانية من أنهم علموا بدايةً بالمطلب الروسي من التقارير الإخبارية، وانتقدت طهران الخطوة، واتهمت موسكو بأنها تريد تأمين مصالحها في أماكن أخرى على حساب نجاح مفاوضات فيينا، إلا أن حدّة النقد تراجعت سريعا.
يبدو أن "الاتفاق النووي" الإيراني أصبح ضحية تناقضٍ حقيقي بين مصلحة روسيا منذ فترة طويلة في احتواء برنامج طهران النووي ومصالح روسيا "الجديدة" بعد اجتياحها أوكرانيا المستعدة لتقويض علاقاتها مع الغرب، والتضحية بمساعي الوساطة التي بذلها كبير المفاوضين الروس في محادثات فيينا، ميخائيل أوليانوف. وعلى الرغم من أن مشاركة روسيا في الاتفاق ليست ضرورية، إلا أن اتفاق 2015 يمنحها دورًا مهمًا في شحن فائض مخزون إيران من اليورانيوم المخصب وتخزينه. مع ذلك، استعادة الاتفاق النووي بدون روسيا ممكنة من الناحية النظرية، في حال توفرت دول أخرى (الصين أو ربما كازاخستان) لشحن فائض اليورانيوم المخصّب من إيران، واستبداله باليورانيوم الطبيعي، والعمل مع إيران لتحويل محطة فوردو النووية إلى منشأة بحثية، لكن ما يصعب تجاوزه عمليا أن الاتفاق الأصلي مدعوم بقرار من مجلس الأمن الدولي، ويمكن لروسيا أن تستخدم حق النقض (الفيتو) ضده إذا اختارت معارضة اتفاق يتم إحياؤه.
سيكون فشل محادثات فيينا مكلفا، وسيؤدّي إلى مزيد من التوتر وعدم اليقين في الشرق الأوسط، مع عمل إيران بشكل مطرد على بناء قدراتها النووية
المصلحة الروسية، أقله حتى اللحظة، في منع انتشار الأسلحة النووية ستجعلها على استعداد لوضع اللمسات الأخيرة على الصفقة، لكنها اختارت المناورة على خطة العمل الشاملة المشتركة بعض الوقت، وتأخير التوصل إلى اتفاق نهائي. وتبدو إيران من جهتها حريصة على إنجاز الصفقة، بالنظر إلى الإيرادات المحتملة التي يمكن أن تكسبها من تصدير نفطها مع ارتفاع الأسعار بفعل التطورات الحالية، وحاجتها إلى تخفيف العقوبات الأميركية التي أدّت إلى خفض إنتاج إيران النفطي (إلى حوالي 700000 برميل يوميًا). ومع وصول إمدادات النفط الإيراني إلى الأسواق (2.8 مليون برميل يوميًا كما كان عليه الحال قبل 2018) في حال احياء الاتفاق، فإن الإنتاج الإيراني من النفط سيؤدي إلى تباطؤ الارتفاع المطرد في الأسعار بنسبة تصل حتى 10%، الأمر الذي يخدم أيضا مصالح غربية تتعارض مع مصلحة موسكو التي تريد أن تستفيد من ارتفاع الأسعار الحالي في المواجهة مع الدول الغربية، بالضغط على اقتصادات تلك الدول وتعزيز إيرادات روسيا بوصفها من أكبر مصدّري النفط.
سيكون فشل المحادثات مكلفا، وسيؤدّي إلى مزيد من التوتر وعدم اليقين في الشرق الأوسط، مع عمل إيران بشكل مطرد على بناء قدراتها النووية، ومواصلتها تخصيب اليورانيوم، مقتربةً مما تعرف بـ"نقطة الاختراق" التي تكفيها لصنع رأس نووي. أما أنصارها الحوثيون في اليمن فمستمرّون في قصف أهدافٍ نفطيةٍ في عمق الأراضي السعودية والإماراتية. هناك إسرائيل التي ترحب سرّا بالغزو الروسي لمفاوضات فينا، وهي التي تجنّبت الإدانة الصريحة لغزو مماثل في أوكرانيا، حين وجدته يحقق لها سلةً من المنافع المتنوعة، وقد تجد الفرصة مواتيةً أكثر من أي وقت مضى، لشن عمل عسكري ضد إيران. وتجد إيران نفسها في وضع معقد، بعد أن سعت عقودا إلى تصوير روسيا حليفا أو على الأقل شريكا استراتيجيا، وهي تتحاشى، حتى اللحظة، إدانة الخطوة الروسية في مستوياتها الرسمية الرفيعة، تحسّبا من رد فعل شعبي باعترافهم الصريح بطعنة روسية في الظهر، ولا تزال تصر على إلقاء اللوم في عرقلة التوصل إلى اتفاق على الجانب الأميركي، فيشتكي مسؤولوها من المطالب الأميركية الجديدة والمتكرّرة. لكن ماذا بشأن المطالب الروسية المستجدّة؟
قد يعني توقف المحادثات في فيينا فرصة لإجراء محادثات بين إيران وروسيا بشأن الوضع المستجد، لكن ذلك سيكون اعترافا بأحقّية المطلب الروسي بعد العصا التي وضعتها روسيا في عجلات عربة المفاوضات، وغرزتها في ظهور الإيرانيين. والخيار الأكثر واقعية دخول إيران في محادثات ثنائية مباشرة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي ما برحت إيران ترفضه، لكن إن كان على إيران التفاوض مع موسكو بشأن عرقلة روسيّة، فإن الأكثر منطقيةً أن تتفاوض مباشرة مع واشنطن، طالما كانت العقوبات التي تفاوض إيران من أجل رفعها أميركية. على إيران أن تتكيف مع تغيير في قواعد اللعبة قبل فوات الأوان.