إيران في سورية ... مجدّداً
بالتمعّن مليّاً في خريطة الشرق الأوسط، وأذرع إيران المُتغلغلة فيه، بالتوازي مع سعيها الحثيث إلى تحويل دول محيطها الحيوي أطرافاً مهمّشة بلا ذاكرة أو تاريخ تخدم المركز؛ طهران، بغضّ النظر عن حجم استقلال هذه الدول وقوّة حكوماتها، نجد أنّ إيران استشرت كسرطانٍ خبيثٍ داخل المنطقة العربية، بعدما نجحت في تأسيس مصدّاتٍ مذهبيةٍ وشبكاتِ عملاءَ لها، خلاياً نائمة، مقابل أموال ضخمة ووعود بالمناصب الحسّاسة، أو مقابل حماية العروش الاستبدادية، كما في سورية، التي غدت الصورة الأعتم لمآلات التدخّل الإيراني السافر في المنطقة، بعد تعاظم شبكة العلاقات الإيرانية الخيطية مع نظام الأسد إثر انشغاله الانفعالي الكبير بالمُتغيّرات السياسية والظروف الإقليمية الضاغطة. يلزم الإلحاح على هذه السردية عبر تشابكِ مساراتها المتواكبة مع مدلولات الواقع السوري المأزوم، على اعتبار أنّ إيران تتوهّم أنّها سيطرت على القلب الاستراتيجي لسورية، والدليل أنّ قائد مقرّ "عمار" للحروب الناعمة التابعة للحرس الثوري، مهدي طائب، قد ألحقها بالجغرافيا الإيرانية، واعتبرها المحافظة رقم 35، بعدما تمَّ الانتقال، وبسلاسةٍ مريبة، من التدخّل الناعم إلى التحصّن الاستراتيجي، ما يفرض جزئية محورية في السياق، وهي استحالة فصل سياسة إيران تجاه سورية عن مجمل رؤيتها للمنطقة العربية، ولا يبدو واقع وفاة إبراهيم رئيسي قوياً بما يكفي لإثارة أيّ طاقة تغييرية، رغم أنّه من أكثر المؤمنين بمشروع إيران التوسّعي، ولذا، كان يُعدُّ لخلافة المُرشد الأعلى. القاطرة الإيرانية ستسير حكماً، وعليه ليس من عجائب الصدف أنّ السياسة العميقة لإيران لم تكُن يوماً في يدِ من يتولّى سدّة الرئاسة، التي وصفها الرئيس الأسبق محمد خاتمي يوماً أنّها سيفٌ بلا نصل.
زيادة التوتّرات بين إيران والأسد أشبه بنزعةٍ انعزالية وعدائية تُبقي سورية ساحةً ملتهبة لصراعات القوى الإقليمية
فقدان طهران رئيس البلاد ووزير خارجيتها، معاً، سيترتّب عليه بعض الفراغ في الأداء السياسي إلى حين موعد انتخابات جديدة، بينما ما تزال عين نظام الملالي مُصوَّبةً على الغنائم السورية في ضوء ترتيب وجدولة الديون المُستحَّقة لإيران. ومن اللافت للانتباه أنّ قراءة الملفّ (الإيراني - السوري) الشائك تعكس وضوحاً سافراً في الرؤى والتوجهات، التي لها دلالات كثيرة تُفسّر حقيقة اللهاث الإيراني الكبير في سورية، وهو ما فتح أبواب التنبّؤ للحديث عن طلباتٍ غير منقطعة لطهران تصبّ في خانة التموضع العسكري الاستراتيجي، بالإضافة إلى تنازلات "سيادية" ماليّة في حقول النفط والغاز والفوسفات والمشاريع والاتصالات. والواقع، بحسب ما تشير إليه مصادر ديبلوماسية غربية، أنّ بشّار الأسد قد وقَّع على هذه الاتفاقيات مُجبراً، لكنّه راوغ في تنفيذها منتظراً الوقت المناسب، خاصة وأنّ المشهد السوري الحالي يرتكز على معطياتٍ متحرّكة لم تستقرّ بعد، وأنّ المُستجدّ الطارئ الأبرز هو أنّ الأسد سوف يرتاح، نسبياً، من الضغوط الإيرانية في انتظار سياسةٍ إيرانية جديدة مع الرئيس القادم، وهو أمر يمكن الرهان عليه، كما يتوهّم الأسد، لا سيّما وأنّ المُرشد الأعلى علي خامنئي، وبموت رئيسي، يكون قد فقدَ أبرز أذرعه في مشروعه السياسي، الداخلي والخارجي.
علاوة على ذلك، فزيادة التوتّرات بين إيران والأسد أشبه بنزعةٍ انعزالية وعدائية تُبقي سورية ساحةً ملتهبة لصراعات القوى الإقليمية، ما يُقوّض إمكانية تحقيق التعافي المُبكّر على خلفية التحالفات الدولية المُتغيّرة والاستراتيجيات الجيوسياسية، ولعلّ أبرز ملامح هذا التوتّر صدور قرار أمني من النظام السوري لجهة فرض قيود، وُصفت بـ"الصارمة"، على الزوار "الأجانب" إلى المسجد الأموي بدمشق، ومنع الوفود من ممارسة الطقوس الدينية، وشمل التعميم الدبلوماسيين ورجال الدين من الطائفة الشيعية، وضرورة حصولهم على موافقات عبر البعثات الدبلوماسية لبلدانهم قبل الزيارة. ويبدو أنّ التوتّر يقترب حثيثاً من أن يُترجَم في أرض الواقع، في انتظار مكاسب مستقبلية مع إمكانية تغيّرٍ في السياسة الأميركية، بحكم الاستحقاقات الانتخابية القادمة، التي قد تفرز إدارةً حازمةً تعيد سياسة الضغط الأقصى على إيران بدل الاحتواء.
في هذا الصدد فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتجاهل التعقيدات الكامنة في صميم العلاقة الإشكالية بين إيران وسورية، فالمشروع التوسعي المشبوه لنظام ولاية الفقيه أكثر بُعداً من طقوس اللطميات والبكائيات المُحزنة المُطربة، وهو القائم على استغلال بُؤر التوتّر والنزاع وابتزازها إلى حدّ الاستنزاف. هذا هو الأفق الذي تنفتح عليه الذهنية الفارسية الاستعمارية، إذ سرّبت الرئاسة الإيرانية وثيقة كشفت فيها أنّ طهران صرفت خمسين مليار دولار على الحرب السورية، وفي مدى عقد كامل، في إشارة إلى أنّ التحالف الاستراتيجي بين سورية وإيران لن يُخلع من جذوره بسهولة، رغم أنّهما يفترقان في أمورٍ كثيرةٍ منها العائدات الاقتصادية والأمنية للتدخّل الإيراني العسكري، ورغم تراجع وهج "المحاباة" السياسية، بعد موقف "الحياد"، الذي اتخذته دمشق تجاه حرب غزّة، لتستدرج عروض القمم العربية مكافأةً على موقف النأي بالنفس، وعدم فتح جبهة الجولان، وهو أمر لا تقبل به إيران. يزيد الطين بِلَّة شكوك الأخيرة بتورّط أجهزةِ أمنٍ سوريةٍ في تسريب معلومات بشأن تحرّكات ضبّاطها، إضافة إلى قلقها من تجاوب دمشق مع مُؤشّراتٍ لانفتاح عربي، ومع رغبةٍ عميقةٍ بالخروج من عنق الزجاجة الإيرانية. هي التي لطالما رأت، والقصد إيران، أنّ عودة سورية إلى الحضن العربي بمثابة انتصارٍ لشرعية الأسد، وتأكيدٍ لأهمية محور المقاومة الذي تقوده، ويفوتها أنّ القرار ليس إلا تدشيناً لزمن المعالجات السياسية، والحلول غير الكارثية، واعترافاً بالحقائق الجيوسياسية، التي لا مفرّ منها، والتي شكّلتها قبضة الأسد على السلطة، حتّى اليوم.
والحال هكذا، فإنّ العالم برمّته وطّن نفسه على معركةٍ سياسية طويلة الأمد في سورية، وفي وقت تتّفق فيه القوى الدولية في أنّ الحل توافق سياسي تُحفظ من خلاله مصالح الدول الرئيسية على شكل اتفاقات رسمية، تُصرّ إيران على فرض وجودها بالقوّة عبر الإمساك بكلّ أطراف الملفّ السوري، وتنويع سيناريوهات التعامل مع التحدّيات الطارئة بالعمل على تفريغ أيّ طرحٍ مُتخيّلٍ لتنحيةِ أو عزل بشّار الأسد، وقد يبدو هذا صعباً، اليوم، مع تهميش الأخير، خاصّة بعد إعلان قمّة المنامة، الذي تضمّن عبارات غابت عن إعلان قمّة جدة، والتأكيد على ضرورة إنهاء الأزمة السورية بما ينسجم مع قرار مجلس الأمن 2254 (دعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإلى انتخابات برعاية أممية، مطالباً بوقف أيّ هجمات ضدّ المدنيين بشكل فوري). وكي لا يعدو مُجرّد تقديراتٍ عبثية أو تخميناتٍ بمعطياتٍ ناقصة، يُمكن تفسير الموقف العربي حيال عدم منح الأسد كلمة، وحرمانه من استضافة القمّة القادمة، بمحاصرته سياسياً، والضغط عليه، تحديداً فيما يتعلق بوقفِ تمدّد إيران في سورية بما يضمن تحجيم نفوذها في المنطقة.
سبق وأكّدت واشنطن أنّ أسماء الأسد لطالما عرقلت الجهود المبذولة للتوصّل إلى حلّ سياسي، وعملت عبر منظّماتها على بناء شبكة محسوبية واسعة
نافل القول، الرعونة التي تعاني منها القيادة الإيرانية ستدفعها للذهاب بعيداً في لعبة الاستنزاف، بينما الانتصار الوحيد لها يتمثّل في الاختراق الكامل للنظام السوري، وتحويله مجرّدَ كيانٍ إيراني داخلي، بحجّة أنّ "سورية هي الخط الأمامي للدفاع عن الأمة الإسلامية"، وهي جملة ردّدها الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد مراراً وتكراراً. وعليه، ثمّة مفاجآت مُنتظرة ستطاول الشأن السوري بالتزامن مع إصابة أسماء الأسد بمرض السرطان، وانكفائها عن المشهد العام، إذ سبق وأكّدت الولايات المتّحدة أنّ الأخيرة لطالما عرقلت الجهود المبذولة للتوصّل إلى حلّ سياسي، وعملت، عبر منظّماتها غير الحكومية، على بناء شبكة محسوبية واسعة تبخّ سموم عائلة الأسد، ليرزح السوريون بين سرطانَين، الإيراني والأسدي على حدّ سواء.